بقلم: هشام آيت باحسين
إن زيارة مدن مغربية كثيرة قد لا تدفعك إلى كتابة تقارير حول تجربة سفرك إليها، لكن مدينة طنجة اكتشفت فيها جمالا خاصا يحتاج إلى فنان وليس كاتب من أجل رسم ملامحها، وبما أنني اخترت أن اتعسف واكتب فرضا لما عشته من إعجاب بها وبأهلها فإني لم أستغرب أيضا من قضاء محمد شكري جل حياته بين جدران طنجة العالية غير مكترث بنداءات بقاع اخرى على الأرض.
طبعا أهم ما يثير فينا شغف زيارة المدينة هو موقعها الجغرافي المتاخم للقارة الأوروبية، فذاك يعطيك انطباع بأنك تضع قدما في إفريقيا واخرى في أوروبا. بالإضافة إلى تاريخها العريق الذي حكم عليها في وقت سابق بأن تكون مدينة دولية تلتقي فيها ألوان اجتماعية وثقافية متنوعة فانعكس ذلك على معمارها وبناياتها وماثرها التاريخية خاصة الإسبانية منها.
ولكي أكون عمليا أكثر فيمكن أن نقسم رحلتنا إلى أجندة تتكون من أيام نحدد فيها برنامج رحلتنا:
اليوم الأول: عند الوصول إلى مدينة طنجة في وقت مبكر يمكن أخذ قسط من الراحة من اجل الإستعداد لجولة مسائية بالقلب النابض للمدينة في شارع محمد الخامس، الطنجاويون لا يعرفونه بهذا الإسم بل ينادون عليه "البولفار" وفيه قيساريات ومقاهي ومطاعم وإدارات حيوية وغيرها مما يستقطب السياح هناك... أثناء التجول تصادف سورا إسمه تاريخيا "سور المعكازين" سمي بهذا الشكل لأنه في القديم كان عبارة عن هضبة يستريح فيها التجار الرحل المارون عبر طنجة، وحتى في زمننا الحاضر نجد المصطافون جالسون عليه يتأملون "الغادي والماجي" وإلى جانبهم مدافع حربية قديمة تزين نظرة الناظرين إلى المكان. وأنت تتجول بوسط المدينة تصادف إقبال الناس على أكلتين تنفرد بهما طنجة وهما: "كالنطي" بكسر اللام وهو عبارة عن دقيق حمص ممزوج بالبيض ومطهو داخل الفرن التقليدي وثمنه زهيد ( درهم واحد للقطعة). أما الأكلة الثانية فتنفرد بها فقط في طريقة تقديمها وهي بيع شرائح بيتزا عوض بيتزا كاملة، ففي أحد المطاعم المعروفة هناك يمكن أن تأخذ قطع من بيتزا كبيرة بثمن خمس دراهم... قد تكفيك قطعتين أو ثلاث في وجبة العشاء. بهذا الشكل تكون قد استفدت من جولة في وسط المدينة دون إضاعة ليلة المبيت الأولى.
اليوم الثاني: من اجل تنويع محطات الرحلة يمكن اختيار الذهاب إلى الشاطئ كوجهة ثانية، المشكل أن الإختيار بين شواطئ المدينة أمر صعب نظرا لجماليتها الفريدة، نصيحتي فقط أن تتجنب الشواطئ القريبة من ميناء طنجة لما فيه من تأثير سلبي على مياهها وأيضا تلك التي تكون مصبا للوديان وهو الأمر الذي يمكن أن يشكل خطورة على حياتك أثناء السباحة بسبب االتيارات المائية. اخترت في رحلتي شاطئين جميلين: شاطئ سيدي قاسم وبقربه شاطئ أشقار وكلاهما جميلين يتميزان بمياه صافية تسر الناظرين وامواج بحرية صغيرة يبعدان عن طنجة غربا ب 16 كيلومتر "يصل إليهما الباص" . وفي الشرق يمكن الإستجمام بشاطئ مدينة القصر الصغير الذي يتميز بصفاء بحره وهدوء أمواجه، يبعد عن طنجة ب 41 كيلومتر، لكن الأجمل هي التضاريس الجبلية الطبيعية التي تصادفها في طريقك من طنجة إليه، بالإضافة إلى وقوف كثير من المهاجرين الأفارقة جانب الطريق طلبا للماء أو الغذاء وواضح أنهم يعانون في الخلاء في انتظار العبور إلى أوروبا، بهذه اللوحة البئيسة يمكن أن تشاطرهم هموم حياتهم بشكل مباشر. ومن لم يستطع لبعد المسافة يمكن ان يكتفي بشاطئ مالاباطا وهو قريب البولفار.
لكن بمجرد الإنتهاء من جمال بحر القصر الصغير قد تنتابك فكرة أن تكمل الطريق إلى مدينة "الفنيدق" المعروفة برواج السلع الإسبانية وأكيد ستجد أشياءا كثيرة غير موجودة في باقي مدن المغرب. وأثناء العودة إلى مدينة طنجة من الأفضل ان تكمل الطريق نحو المضيق ثم تطوان وصولا إلى طنجة وهي طريق أفضل من الطريق السابق نظرا لقلة الطرق الجبلية ولأنها ثانيا شبيهة بالطريق السريعة لأنها تتضمن أربع مسالك، أما من حيث المسافة فالطريقين متشابهين تقريبا من حيث المسافة لهذا استغل الفرصة لإلقاء نظرة على المضيق وتطوان. بهذا الشكل تكون قد عدت إلى الإقامة منهكا متعبا لكن بطعم اللذة والمتعة.
اليوم الثالث: الإختيار اليوم يقع على المدينة القديمة بطنجة وهي واقعة بين ميناء طنجة ووسط المدينة، جميلة بأسوارها وبناياتها الأندليسة والإسبانية، شاهدة على تاريخ عريق مر من هنا، تأسرك البازارات مثلما هو الحال في جميع المدن المغربية العتيقة، ويمكنك أن تتجول في المدينة القديمة حتى في ساعات الحر أثناء الزوال لأن زقاقها ضيقة وبالتالي فأنت تتجول بمأمن عن أشعة الشمس الحارقة، فلا تتردد في التجول فيها في أي وقت تشاء، وما علمته ايضا أن المدينة القديمة تغلق أبوابها ليلا حفاظا على الأمن، لذلك احرص على الخروج منها قبل حلول الليل. وبجانب المدينة يقع سوق صغير مشهور بالمدينة لا تتردد في إلقاء نظرة عليه يسمونه في طنجة "فندق الشجرة" يتضمن مواد غذائية اسبانية وأواني منزلية ثم ألبسة وأحذية رجالية. بعد الإنتهاء من منطقة "المدينة القديمة" يمكن التوجه إلى "سوق كاساباراطا" وهو توأم درب غلف بالدار البيضاء، فيه فضاءات للملابس خاصة "البال" قد تصادف فيه ماركات عالمية والأجهزة المنزلية والأفرشة والأجهزة الإلكترونية وكل ما يمكن أن تتصوره موجود هناك، بهذا الشكل نكون قد اتممنا اليوم الثالث.
اليوم الرابع: يمكن تخصيص هذا اليوم للمنشآت التاريخية والأثرية التي خلفها التاريخ القديم، وفي الواقع فقد برمجت هذا اليوم من اجل هذه الغاية لكن النتيجة كانت يائسة: توجد ثلاث مواقع أثرية تشكل معلمة طنجة: palace de toros أو ساحة الثيران الإسبانية، ثم "مسرح سيرفانتيس" كلاهما مغلقين في وجه السياحة وقد فوجئت بالأمر رغم أهميتهما في تاريخ المدينة، لهذا اكتفيت بصور من الخارج فقط. أما الموقع الثالث فهو عبارة عن مقهى اسمها "مقهى الحافة" تقع قرب شاطئ مرقالة (قريب من الميناء أيضا غربا) ويعود تاريخ بنائها إلى بداية القرن العشرين وما يميزها مرور مشاهير كثر منها سواء السياسيون أو الفنانون أو الأدباء أو غيرهم وتتضمن صور لبعض هؤلاء المشاهير، فيمكن أن تحتسي شايا فيها مستمتعا بصور هؤلاء وأيضا بالمناظر التي تطل عليها كزرقة البحر مادامت تقع في موقع مرتفع، أما الشاي فهو منعنع منعش ثمنه 5 دراهم.
اليوم الرابع: ختام الرحلة مسك وأطيب ما يمكن ختم به الرحلة هما موقعين رائعين "مغارة هرقل" و"كاب سبارطيل" الأولى عبارة عن مغارة تحكي عن أسطورة هرقل الذي اوى إليها ليرتاح من حربه مع الهة اخرى وتتضمن المغارة شكلا طبيعيا يتضمن خريطة افريقيا لكن بتدخل من البشر الذي استكمل رسم الشكل، للأسف هي مغلقة في هذا الصيف نظرا للإصلاحات التي تجرى على بعض فضاءاتها خاصة المقاهي والمسالك الموجودة فيها. أما "كاب سبارطيل" فهي عبارة عن منارة تاريخية تعود لعهد السلطان المغربي محمد الرابع بن عبد الرحمان، حيث بنيت بطلب من أوروبا سنة 1864 بعد توالي الحوادث قبالة سواحل المغرب، الفترة الممتدة من العصر إلى الغروب هي أفضل توقيت لزيارتها لما تقدمه من مشاهد جميلة خاصة في ظل الحركة الدائبة للبواخر أمامها وأيضا لأنها أقصى نقطة بحرية في قارة افريقيا.
اليوم الخامس: اخترت أن يكون هذا اليوم الختام راحة استعدادا للسفر خاصة أن المسافة طويلة، لكن مع ذلك لم يضع اليوم هباءا، فطنجة تتميز بتضاريس جبلية واضحة للعيان، لهذا اخترت ان أخرج فقط إلى الجوار من أجل الإستمتاع بالتجول في الزقاق على الجبل، والجميل في الأمر أنه توجد سلالم ومسالك ضيقة ومزركشة تعطيك إحساسا فريدا بالمكان.
اليوم الأخير: النهوض باكرا من أجل السفر عودة إلى البيت، وقد قررت بما أنني سأمر على الطريق الذي توجد به مدينة أصيلا أن أقوم بجولة هناك لأكتشف المدينة، فهي مدينة صغيرة قد تتطلب يوما واحدا فقط لاكتشاف أهم معالمها، وهو الأمر الذي حصل، فاكتفيت بالدخول إلى المدينة العتيقة لأصيلا عبر "باب الحومر" مستمتعا بالأعمال الفنية الموجودة على الجدران وكذلك نسيم بحرها وهدوئها.
خلاصة القول، إن ما يدفعني إلى كتابة هذا المقال هو عدم ندمي على التوجه إلى مدينة طنجة، وما سأحتفظ به في ذاكرتي هو طيبوبة ناسها وتواضعهم وأخلاقهم، حتى أن ما تشتريه من البقال يبارك منه، فاذا انتهيت من طلباتك للبقال تسمعه يقول وهو يجمع مقتنياتك في كيس بلاستيك "تبارك الله" وهو امر في الواقع أضحكني وأثار دهشتي واعجابي في نفس الوقت غير ما تتميز به لكنتهم في الكلام أيضا من جمالية حتى أنني قلت لصديقي هناك أنني يمكن أن أشغل قرصا في جهاز راديو سيارتي فأتمتع بكلام طنجاوة دون إضافة لحن إليه. وما أثارني ايضا بالمدينة هو حرص مسؤوليها على جودة الطرق، تقريبا لم أصادف أي حفرة وسط المدينة، فالتجول بالسيارة داخلها خال من المخاطر، حتى أن الطرق الجبلية والأزقه كلها بحالة جيدة. هي تجربة فعلا فريدة وتعطي للمرء رغبة في اكتشاف باقي المدن المغربية في الشمال، وفي النهاية اتمنى أن يكون تقريري مرشدا ونافعا في اكتشاف مدينة طنجة.
هذا الموضوع منقول من :: منتديات دفاتر التربوية :: يمكنك زيارته في اي وقت للاطلاع على مواضيعه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق