من أجوبة الشيخ محمد بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى
السؤال:
وهذا يقول: كيف يقوِّي طالب العلم مَلَكَة الحفظ والفهم؟ لأن كثيرًا من الطلبة يتركون طلب العلم لفقد هاتين الخصلتين.
الجواب:
أمَّا تقوية الحفظ؛
فأولًا: بدعاء الله – جلَّ وعلا – بأن يزيدك من العلم، والحفظ هو العلم؛ ***64831;بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ***64830;، فحَثَّ الله – جلَّ وعز – على الحفظ بمدحه لِحَفَظَة هذا العلم، الذي هو القرآن، ***64831;بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ***64830;، والنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قد حَثَّ على ذلك، بقوله – عليه الصلاة والسلام – في الحديث الصحيح: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ))، فدَعَا لصاحب الحفظ بالنَّضارة، وهي جمال الوجه وبهاء الوجه، بسبب اشتغاله بحديث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم– حفظًا وأداءً، يحفظه هو حتى يؤدِّيَهُ إلى غيره، فهذا حثٌّ على الحفظ، والحديث الآخر الذي أخبر فيه النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم– بحال الناس وأنهم مثل الأرض، وشبَّههم بثلاث طوائف من الأرض؛
- الطائفة النقية التي قَبِلت الماء فأنبتت العشب والكلأ الكثير.
- والطائفة الأخرى التي هي أجادب أمسكت الماء، هذه عندها حفظ، لكن ما انتفعت فيه، ما في فهم، ولكن جاء الناس فاستنبطوا منها الماء، وسَقُوا وزرعوا، فهذا الذي يحمل الفقه وليس بفقيه.
- وأصاب طائفةً أخرى؛ إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً، فهذا الذي لا يحفظ ولا يفهم.
الثاني يحفظ وإن ضعف فهمه أو انعدم، والأول هو الذي يحفظ ويفهم، هذه النصوص كُلُّها دالة على الحفظ، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بذلك، ومن أعظم الأسباب بعد الدعاء الاستقامة على أمر الله – جلَّ وعلا-؛ ***64831;وَاتَّقُوا اللَّـهَ ***1750; وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ***64830; وإذا قام العبد بما يجب عليه؛ أنار الله بصيرته، وقوَّى حافظته، وحَفِظ عليه جوارحه، لا شك في ذلك.
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ ونورُ الله لا يهدى لعاصي
فالمعاصي تُطْفِئ نور القلب، وإذا انطفأ القلب ذَهب منه الحفظ والفهم جميعًا؛ عياذًا بالله من ذلك.
كما عليه بالسبب الثالث: أن يجاهد نفسه وأن لا يتركها لما تشتهي، وعليه أن يأخذها بالجد، والعزم.
والسبب الرابع: عليه أن يتخوَّل أوقات الفراغ، فراغ الذِّهن من الشواغل والعوارض والموانع التي تمنع من ذلك؛ فإن هذا من أعظم الأسباب التي تُعين على الحفظ، كأن يقرأ في أول النهار بعد الفجر، بعد ما يؤدي أذكاره؛ في الحفظ، أو في آخر الليل إذا هدأ وكان عنده قوة، يقرأ مثل هذا الوقت يراجع حفظه، وأحسن وقت للحفظ هو ما كان في أول النهار، وأحسن وقت للمراجعة ما كان في آخر النهار، فإن آخر النهار يكون الإنسان متعبًا مرهقا لا يستطيع، وربما يعجز عن عن يمسك بكتاب فهُنا يأتي وقت المراجعة، وأول النهار وقت الجد والقوة وصفاء الذِّهن، فهُنا ينتهز الوقت في الحفظ، فهذا سببٌ رابع.
والسبب الخامس: أن يبتعد عن الكثرة في الأكل، فإن البُطنة تُذهِبُ الفطنة، كثرة الأكل هذه تُثقل الإنسان، وتورثه الكسل، وإذا أورِث الإنسان الكسل، وأن تنظر، انظر إلى مَثَل واحد؛ الحيوانات التي تُعد للسباق، إذا أرادَ أصحابها أن يُسابقوا بها يُضَمِّرونها أم يملئون بطونها؟ الإبل إذا أراد أصحابها أن يُجروا لها سباقًا يضمرونها عن الأكل والشرب، ولا يملئون بطونها بالأكل والشرب؟ يضمِّرونها فإذا قلَّ الأكل والجسم، خفَّ البدن، فينشط حينئذٍ للسباق، نعم هذا هو.
وَلَمْ تَزَلْ تَقْطَعُ جِلْبَـابَ الدُّجَـا بِجَلَمِ الأَيْـدِي
وسَيْـفِ العُنُـقِ فما اسْتَرَاحَتْ منْ عُبُـورِ جَعْفَـرٍ
ومِـنْ صُعُـودٍ بصَعِيـدٍ زَلَقِ إلاَّ وفي خَضْخَاضِ
دَمْـعِ عَيْنِهَـا خَاضَتْ وَغَابَتْ بسَـرَابٍ مُطْبِـقِ
إلى أن قال:
حَتَّى غَدَتْ خُوصًا عِجافًا ضُمَّرًا أَعْنَاقُهَا
تَشْكُو طَويلَ العَنَقِ مَرْثُومَةَ الأيْدِي
شَكَتْ فَرْطَ الوَجَى لَكِنَّهَا تَشْكُو لِغَيْرِ مُشْفِقِ
قد ذهبت منها المحاسن بإدْمان السرى وقلةِ الترفق
إلى آخره.
فهذه مُضَمَّرة، فلمَّا ضُمِّرت شدَّت في السَّير واجتهدت فيه.
ولَمْ تَزَلْ تَقْطَعُ جِلْبابَ الدُّجَى بِجَلَمِ الأيْدِي وسَيْفِ العُنُقِ
الإبل ما تمشي هكذا؟ كأنها مقص يَدَيْها في الأمام، فالمقص هذا تقطع به الطريق في الليل، هذا هو الجَلَم، الجَلَم هو المقص في اللغة العربية.
ولَمْ تَزَلْ تَقْطَعُ جِلْبابَ الدُّجَى بِجَلَمِ الأيْدِي وسَيْفِ العُنُقِ
مسافرة، فإذا خَفَّت مشت، أمَّا إذا بَطُنت فإنها تثقل، فهكذا الإنسان إذا امتلأ بطنه ثقُل، وإذا خَفَّ نشط، فعليه أن يبتعد أيضًا عن الزائد في الأكل ويأخذ بقدر البُلغة، بقدر ما يحتاج، فيخف بطنه وينشط جسمه ويصفى ذهنه، فالتخمة جالبةٌ للكسل وجالبةٌ للنوم، وهذا أعظم من أعظمِ الأسباب التي تُنافي تحصيل العلم وحفظ العلم.
وما أبعد العلم كما يقول ابن الوردي:
فما أبعد العلم على أهل الكسلِ
الذي يريد أن ينام خمسة وعشرين ساعة ويبغى يحفظ! هذا ما يمكن، ويبغى يتفقه! هذا ما يمكن، لابُد أن تصبر وتجتهد، وقد قال يحيى ابن كثير كما هو في صحيح مسلم؛ ((لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ))، فإذا نصبت أصبت؛ من نَصِبَ: يعني تعب، أصاب.
فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأملِ
فلابُد من أن تنصب لتتعب، لِتُحصّل، إذا تعبت حَصَّلت، لتتعب؛ في سبيل التحصيل رخيص، والله - جلَّ وعلا- قد أشار إلى ذلك.
***64831;أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ***64831;1***64830; وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ***64831;2***64830; الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ***64831;3***64830; وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ***64831;4***64830; فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ***64831;5***64830; إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ***64831;6***64830; فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ***64831;7***64830; وَإِلَى***1648; رَبِّكَ فَارْغَب ***64831;8***64830;
فانصب: يعني اجتهد.
فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأملِ
فعليك أن تبتعد عن هذا بقدر ما تستطيع.
كذلك أن تبتعد عن الإكثار من النوم، لابد أن تبتعد عن الفضلة من النوم، الزائد من النوم، فتأخذ بحظِّ النفس الذي يُجمّها، ويُريح الجسم ويؤدي إلى صفاء الذهن، وما عدا ذلك لا، اعرف أنه مرض، هذا داء فلا تستجيب له، يذهب عليك النهار حتى الساعة عشرة وأنت نائم هذي مصيبة، كيف تبغى تحفظ؟ هذه مصيبة، يذهب عليك النهار حتى الساعة 11 وأنتَ نايم هذي مصيبة! يذهب عليك الليل كله، وأنت جالس فيما لا فائدة فيه، كيف تقرأ؟! متى تقرأ؟! متى تحفظ؟! هذه مصيبة ثانية.
فلابد من أن يَتَفَرَّغ الإنسان ويحاول أن يجتنب الفضل من الطعام والزيادة فيه، والفضل من النوم، فلا يأخذ إلا بقدر الحاجة منهما.
كذلك في الخُلطة وهذا من أعظم الأسباب، عليك أن تجتب الخُلطة الزائدة في الناس التي تُضَيِّع عليك الوقت، فإن الناس على ثلاثة أقسام؛ منهم:
· من صُحبته مثل الدواء، هذا لا تأخذه إلَّا في وقت المرض، كيف؟ إذا ضاق صدرك، وجاءك شيءٌ من الضيق، تجلس معه، تجد عنده الطُرَف والمُنح والفوائد، فتُقضّي الوقت معه بخير الكلام الذي يشرح الصدر، ويُسلِّي نفس الإنسان.
· ومنهم من صُحبته كالطعام والشراب، هذا لا تأخذه إلَّا في وقت الحاجة إليه، ومعنى ذلك أنها تتكرر فتأخذ معه مجالس بقدر ما تحتاج.
· ومنهم من صُحبته كالهواء لا تستغني عنه، وهذا الذي يأخذك إلى معالي الأمور ويعينك على نفسك، فهذا لا تستطيع مفارقته.
وإذا صاحبت فاصحب ماجدًا ذا حياءِ وعفاف وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا وإن قلت نعم قال نعم
هذا يُعينك على نفسك، نُذاكر؟ قال: تم، نسافر لطلب العلم، تم، وهكذا، هذا تصحبه ولا تستغني عنه وهذا الذي تُذَكِّرك بالله رؤيته، أو تدلُّك على الله كلمته، أو كما قال آخر يُذكرك بالله حاله أو يدلك على الله مقاله؛ هذا لا تستغني عنه، وهذا الذي حصل للأوّلين، فلان يقول رفيق فلان في الرحلة والطلب، فأنت لا تصحب الكُسالى، وإنما تصحب صاحب الهمة العالية لِتعلوا في همتك فإن المرء يُقاس بالمرء، والمرء على شاكلة المرء، شبيه الشيء مُنجذبٌ إليه، الكسلان للكسلان، والنشيط مع النشيط، والمجتهد مع المجتهد، ترى أنتَ الممتاز ما يروح عند الكُسالى في المدارس، ما يبحث إلَّا عن واحد مثله فتجده وإياه سوى، لأنه ما يُضيِّع عليه الوقت ويستفيد منه، وذاك يستفيد أيضًا منه إذا راجعا العلم والمسائل، وهكذا فإذا صحبت فإنما تصحب الذي يُفيدك، إنما يجلس المرء إلى من يُفيده في دينه، فالواجب على الإنسان، طالب العلم الذي يريد أن يُحَصِّل أن يكون على هذا النحو، وأمَّا من بَقِي بعد هؤلاء الثلاثة، فما بقي إلا واحدًا رابع، وهذا معلوم للجميع خارج عن القسمة التي سمعتموها بالاستقراء، وهو الذي صُحبته مرض، هذا لا يُصحب أبدًا، فالغاغة والنُّوكى والسفل من الناس؛ من جالسهم يجني ندما.
منْ جالسَ الغاغَة النُّوكَى جَنَى نَدَمًا
فلابد وأن يندم، والسفل كذلك مجالستهم ندامة، فإن المرء يُعيَّر بهم، نعوذ بالله من ذلك، وقد بيَّن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم- حال الجلساء في الحديث الذي تعرفون ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ ..)) فهذا لا يُجالس أبدًا، فإذا رأيت طالب علم مع من كان على هذه الشاكلة هذا بابٌ آخر، إذا لم يكن لدعوته ونصيحته، مجلسًا مجلسين يدعوه لذلك، وإلَّا فلا ينبغي أن يكون جليسه، قعيده، وأن يكون معه دائمًا وأبدًا، إنَّما هذا مريض يحتاج هو لأن يعالجه، لكن ليس معنى ذلك أنه يمرض بسببه.
فإنه ما ينفع الجرباء قُرب صحيحةٍ إليها ولكن الصحيحة تجرَبُ
فالنصيحة، والرِّفق به، واللُّطف به؛ وبذل حسن المعشر له في وقتٍ ما، لا يعني ذلك المصاحبة، أمَّا أن تصاحبه فهذا شيءٌ لا يحسن بك، فالإنسان إذا حصل له هذا؛ حصل له بإذن الله - تبارك وتعالى- الحفظ.
· وهناك أيضًا سببٌ آخر نختم به؛ وهو أن يستشر كيف يبدأ في العلوم، يستشير العارف كيف يبدأ فيُعطيه الأسهل فالأسهل، فيترقَّى من القصير إلى المتوسط إلى الطويل، وليس المهم أن تحفظ ولكن المهم أن تُحافظ على ما حفظت؛ وهذا هو الأهم، وذلك بمراجعة المحفوظ، ليكن لكَ وقت من أوقاتك يوميًا، تُراجع فيه من محفوظك كُلِّه، يومٌ في كذا، ويومٌ في كذا، ويومٌ في كذا، وإذا كان اليوم يأخذ وقت أكثر، ساعة في كذا، وساعة في كذا، وساعة في كذا، والحافظ سهل، يقرأ وهو يمشي، وفي سيارته، وعند الإشارة ينتظر، وفي الوجبات السريعة لو راح .. ينتظر، وعند المطاعم، وفي قضاء الأشغال، وفي انتظاره في المستشفى حتى يأتي رقمه، هذا يُراجع حفظه فيُحافظ عليه، لأنه قريب في صدره، فما يحتاج إلَّا أن يتهيَّأ في المراجعة، ومن بدأ في هذا سيجد ثِقَلًا في أوَّل الأمر، لكن إن اعتاد عليه يَجِد الثِّقل في تركه، فإذا مرَّ عليه يوم ولم يراجع فيه شيء من محفوظه يحس كأنه فقد عضو من جسمه، فإذا أخذ نفسه بذلك حصل له الخير بإذن الله – تبارك وتعالى- ونسأل الله – جلَّ وعلا- التوفيق.
أمَّا الفهم؛
وهو القسم الثاني من السؤال؛ فهذا أمره بيد الله – جلَّ وعلا-، فإن الله – سبحانه وتعالى- هو يُقسِّم الفهوم بين الناس، قد دلَّ على ذلك القرآن والسُّنة:
· أما القرآن فقوله – جلَّ وعلا-: ***64831;فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ***64830;، فالفهم من الله – جلَّ وعلا-.
· وأمَّا السُّنة فحديث علي، حديث أبو جُحَيْفَة – رحمه الله- الذي سأل فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في الصحيح، هل خصَّكم النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم- بشيء كما في البخاري في العلم: قال: ((لم يخصنا بشيء، إلَّا فهْمًا آتاه الله عبدًا مسلمًا في كتابه أو ما في الصحيفة))، أمَّا في الصحيفة فقال العقل، وفِكَاك الأسير، وألَّا يُقتل مسلم بكافر، والعقل المراد به مقادير الدِّيات.
إِنِّي وقَتْلي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَهُ كالثورِ يُضْرَبُ لَمَّا عافَتِ البَقَرُ
فالعقل المراد به الدية، تُساق الدية فتُعقل في مراح أولياء الدم، أولياء المقتول؛ فسُمِّيت عقلًا يُعقل ذلكم المقتول، فسُميت عقلا.
إِنِّي وقَتْلي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَهُ كالثورِ يُضْرَبُ لَمَّا عافَتِ البَقَرُ
أعقله: يعني أدفع عقله - ديته-، وهذا معروف شاهده ابن عقيل عندكم، فالشاهد أن الفقه إنما أمره بيد الله - سبحانه وتعالى-، فإن الفقه هو الفهم، والتفهيم أمره عائدٌ إلى الله - جلَّ وعلا-، ولكن على الإنسان أن يسعى إليه وذلك بالتعلم، وطلبه على أهله، وكلما ازداد علمًا ازداد فقهًا وفهمًا، فلا يكسل في هذا، والفقه هو ثمرة الأدلة، الكتاب والسنة هما الأدلة، وثمرتها الفقه، الذي قال فيه - صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))
فاحتفل في الفقه الدينِ ولا تَشْتَغِل عنه بمالٍ وخول
واعتبر نحن قسمنا بينهم تلقهُ حقًا وبالحق نزل
صدِّق الشرع ولا تركن إلى رجلٍ يرصد في الليل زُحَل
.. إلى آخره.
فالشاهد احتفل لهذا الفقه؛ يعني: اعتز به وافرح به، واجتهد في طلبه، وابتعد عن الكسل.
لا تقل قد ذهبت أربابه كُلُّ من سار على الدرب وصل
نحن لا نحب أن نكثر من الأشعار في هذا، ونحب أن نكثر من الأدلة الشرعية في هذا الباب.
فالشاهد أن طالب العلم إذا أراد التفقه؛ عليه أن ينزل إلى أصحاب الفقه في الدين، وعليه أن يطلب الأسباب والوسائل المعينة له على الفقه، وهي العلوم الآلية، علوم الآلة.
فأولًا: اللغة العربية، التي يفقه بها الخطاب، ويحسن رد الجواب.
وثانيًا: أصول الفقه التي يفقه بها الأدلة، فلابد من أن يفقه الأدلة، وفقه الأدلة مبني على معرفة القواعد الأصولية، أصول الفقه التي يفهم بها الخطاب، أمَّا إذا لم يفهم الخطاب فكيف يعمل؟ فهذا الفقه الذي أنت تسعى إليه لابُد أن تحصِّلهُ بأسبابه، من أعظم أسبابه أن يقرأ في أصول الفقه،
أَدِلَّةُ الفِقهِ عَلَى الإِجمالِ وَصِفَةُ الْوُجُوهِ لاِسْتِدلالِ
تُعرَفُ ذِي: فَنَّ أُصُولِ الفِقهِ، مَنْ أَدْرَكَهَا فَهْوَ الأُصُولِي فَاعْلَمَنْ
أن يعلم الخطاب هنا، ويعلم دلالته، وهل الدلالة قاطعة، دلالة ظنية، دلالة متفق عليها، دلالة مختلف فيها، معرفة أنواع الأدلة، معرفة الناسخ، معرفة المنسوخ، معرفة المطلق، معرفة المقيد، معرفة العام، معرفة الخاص، معرفة المُجمل، معرفة المُبَيَّن، وهكذا، لابد من أن يقرأ كتابًا في الأصول يتقنهُ، حتى يعرف إذا مرت عليه الأدلة، كيف يفقه بها، ويقرأ كتابًا في الاصطلاح، فهذا أيضًا في العلوم الآلة، ومصطلح الحديث من علوم الآلة، يعرف به صحة الدليل، أمَّا أن يستنبط الحكم من دليلٍ ساقط، موضوع، مكذوب على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم-، أو شديد الضعف؛ هذا لا عبرة به، لا يفرِّق بين ما في البخاري وما بين في الموضوعات ابن جوزي هذا لا عبرة به.
واقْرَأْ كِتابًا يُفِيدُ الاصْطِلاحُ بِهِ تَدْرِي الصَّحيحَ مِن الموْصوفِ بالسَّقَمِ
لابد من كتابٍ في المصطلح حتى تعرف صحيح سُنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ضعفها، فتستدل بالصحيح، ولا تستدل بالضعيف، إلَّا إذا كان الأصل فيه الأحاديث الصحاح وأوردت ما فيه من الأحاديث الضعاف؛ فالأصل ثابتٌ بالصحاح، وأصول الفقه يحسن به النقش، وهو الفهم في الأدلة، فمن لم يكن كذلك، فحينئذٍ يكون أعور، الذي لا حديث عنده ولا معرفه له بعلم الحديث؛ بالاستدلال أعور الفقه، كما قال الشافعي - رحمه الله تعالى-، فإن من عَرَفَ الحديث أو عَلِم الحديث؛ قَوِيت حجته، ومن علم اللغة رقَّ طبعه، فأن اللغة العربية تُكْسِب صاحبها مع أدبها رِقَّة الطبع، فلاشك أن يجب على طالب العلم إذا أراد أن يحصل الفهم أن يسلك طريقه،
لا تقل قد ذهبت أربابه كُلُّ من سار على الدرب وصل
فلابد من أن تسلك هذا الطريق، وكثرة القراءة في كتب الفقه، وكتب فقه الخلاف تورث الإنسان مَلَكة فقهية؛ لأنه ينظر في الأدلة، ويعرف الصحيح والضعيف والراجح والمرجوح، فطالب العلم المتوسط إذا حسُنت نيته، كانت عنده أهلية، حسُنت نيته فإنه يعرف - بإذن الله تبارك وتعالى- الراجح من المرجوح وأقوال العلماء بالأدلة التي تكون معروضة لهم بين يديهم إذا حسُنت نيته، كما قال ذلك شيخ الإسلام – رحمه الله- وغيره من علماء الإسلام، فلابد لك أيها الطالب من أن تعتني بهذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق