كلمة "يشكا" أصبحت مرادفا للموت والخوف عند سكان الجنوب الشرقي الذين يستعملونها في سفرهم نحو مدينة مراكش والغرب عموما، منذ الفاجعة التي راح ضحيتها أزيد من أربعين قتيلا. لكن شبح الموت الذي يهدد الناس على هذه الطريق اليوم، كان هو نفسه الذي هدد القدماء في القرن التاسع عشر، غير أنه كان يلتحف بعباءة قاطع الطريق.
لقد كانت "تيشكا" واحدة من أخطر المسالك التي يرتادها قطاع الطرق، نظرا لكونها موحشة وخالية من السكان ووعرة أيضا، الأمر الذي جعلها مرتعا خصبا لقطاع الطرق. إلا أن مستعلي هذه الطريق وغيرها من الطرق المعروفة بخطورتها لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا الخطر، بل لجئوا إلى حماية بعض الأشخاص، أطلقوا عليهم اسم "الزطاط". إلى أن سار "الزطاط" مرادفا للحماية، وأصبحت "الزطاطة" عملا قارا، مثله مثل الزراعة والتجارة والصناعة.
بلاد السيبة
ميز الرحالة شارل دوفوكو المغرب عند زيارته له بين قسمين: بلاد المخزن وبلاد السيبة، فبلاد المخزن أو طريق المخزن هي المحاور التي يشرف السلطان على حراستها. إذ يكلف بعض القبائل القريبة من هذه الطرقات بذلك، كما يأمر بوضع محطات استراحة وتموين المسافرين والقوافل تسمى "النزازيل".
وتكون هذه المحطات عبارة عن قطع أرضية مربعة الشكل محاطة بالأشواك. وداخلها بيت من الحجر أو الطين يقطنه حراسها. وتوفر "النزالة " للمسافرين والقوافل المبيت والأكل والشرب، كما تسهر على أمنهم، وذلك مقابل رسم يحصل على الدواب لا على الأفراد. وقد تمنع "النزالة" المسافرين أو القوافل الذين ينزلون بها من المرور بها، دون أن تقضي الليلة هناك، خصوصا في ظروف الاضطرابات التي تمر بها البلاد بين الفينة والأخرى.
وإذا امتنعت القافلة أو المسافرون عن ذلك، تبرأ منهم "المخزن"، وتبرأ من مسؤولية ما قد يقع لهم في الطريق. بالمقابل توجد العديد من "النزازيل" التي لا يشرف عليها المخزن، كما أشار إلى ذلك الباحث عبد الأحد السبتي في كتابه "الزطاطة وآليات الحماية"، في بعض النزازيل التي تشرف عليها القبائل والزوايا.
تقسيم المجال إلى بلاد "السيبة" وبلاد المخزن، لا يعني أن بلاد المخزن آمنة كليا، وأن بلاد السيبة خطيرة دائما، بل إن الأمر نسبي، وهو ما رصده الباحث عبد الأحد السبتي في رحلة شارل دوفوكو.
عند مرور الرحالة الفرنسي في الطريق الرابط بين زاوية سيدي رحال وتيكيرت قال:"رغم أن المنطقة تقع في بلاد المخزن، فليس فيها ما يكفي من الأمان للسير بدون "زطاط". لكن رجلا واحدا يكفي. ولم أجد صعوبة في العثور على من يخفرني". وبعد خروجه من تلوات قال: "لقد دخلت إلى بلاد السيبة: ها أنا بها لمدة طويلة. وهنا لا تعرف المنطقة أخطارا كبيرة، ففي هذا اليوم يكفي خفر رجل واحد".
فالزطاطة في مغرب الاستعمار كانت أكثر تبسيطا عندما يتعلق الأمر ب"الزطاط"، فمهمته واضحة، إذ يتفق مع المسافرين على أن يجتاز بهم طريقا معينة مقابل مبلغ مالي يؤدونه له. لكن عندما يتعلق الأمر بالقبيلة، فقد تكون "الزطاطة" مبلغا ماليا يؤديه المسافر للقبيلة مقابل تأمينها للطريق. وقد يكون مبلغا ماليا يؤديه مقابل المرور فقط، ففي هذه الحالة القبيلة هي من تقوم بمهمة قاطع الطريق أمام كل من لم يؤد رسم المرور.
أشكال الحماية
عرفت الحماية التي توفرها بعض القبائل والزوايا عدة أشكال، ذكر بعضها شارل دوفوكو في رحلته. ومن هذه الأشكال "تاكمات"، وهو شكل ظهر عند إحدى قبائل الجنوب المغربي.
تربط أفراد القبيلة فيما بينهم علاقات متينة توفر لهم الحماية، لكن الأجنبي الذي يحل بهذه القبيلة مضطر إلى أن يذبح بطريقة طقوسية رأسا من الماشية على باب أحد أفراد القبيلة، ليصبح أخا لهم بالتبني "كَما" بواسطة عقد أخوة يسمى "تاكَمات" مع أحد أفراد القبيلة الذي يتولى حمايته.
وهناك أشكال حماية أخرى كـ"المزراك" الذي يعني كذلك أن يوفر أحد أفراد القبيلة الحماية للأجنبي. فإن اعتدى عليه أحد وجب عليه الدفاع عنه والقتال من أجله إن اقتضى الأمر، أما إن عجز عن ذلك أو تخاذل، فإنه سمعته تتحطم في أعين أهل القبيلة ولا يؤخذ بكلامه بعدها. وفي حالة غدر المحتمى به بالمحتمى، وأخذ ماله فسيصبح وضيعا في قبيلته ويدعوه أفراد القبيلة بـ"المعورط".
عرف كذلك مغرب القرن التاسع عشر أشكال حماية أخرى كـ"الذبيحة" و"تايسا" و"أمورن"، وكلها أشكال حماية توفرها القبائل والزوايا. أما الأمن الذي يوفره المخزن، فإن مجاله ظل محدودا رغم الجيوش التي كان يتوفر عليها.
وكلما استفحلت "السيبة" في مغرب القرن التاسع عشر، كلما اجتهدت العشائر والجماعات في ابتكار أشكال حماية تتماشى مع واقعها. فأشكال الحماية لم تتوقف عند هذا الحد، بل إن ذلك ظهر على مستوى البناء، إذ كانت كل المدن والقبائل محاطة بأسوار وأبراج يعتليها حراس. أما بعض القبائل التي تمارس الزراعة فإنها استقدمت من يحميها مقابل جزء من محاصيلها الزراعية تؤديه سنويا، كما فعلت بعض قبائل الجنوب الشرقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق