عـلاقـة الدولة بالمجتمع يمثل مدخـلا هـامـا لمن يودّ فهْـمَ كيف يُصنع التفرق الداخـلي و كيف تنتشر في ذاتـه أمراضا اجتمـاعية و اقتصادية و دينية، فكلمـا تنـاسبَ رأسُ الدولـة جســدَ المجتمع كلمـا تحقق الانسجـام التداولي و كلمـا تنـاقضت مشاريعهـمـا كلمـا اضطربت وِجهـة التغيير و أنتجت تصدعـات متغلغلة في مفاصل المجتمع فتتراكمَ عبر الزمن لتصبح معيقات موضوعية و ذاتية حـادة، لذلك يُدرك المتأمـل في مسيرة التاريخ الإسلامي كيف التحمت مرجعية المجتمع بمرجعية الدولة في عهـد الخـلفاء الراشدين و صارت دولة الخـلافـة لُحــمَــة الأمـة حتـى بدأ التصدع يسري شيئا فشيئا بعد الانقلاب الأمـوي الذي مكَّن من إرسـاء تقاليد سياسية جديدة أفرزت قيمـا اجتماعية فاسدة موروثة، و لم يكن بمقدور الدولة السلطانية فصل نفسهـا عن المجتمع علـى مستوى وظيفتهـا القائمة علـى إنفـاذ الشريعـة علنـاً نظرا لطبيعـة المجـال التداولي الإسلامي الضاغـط و النـاظم للفكر و العمـل، لذلك بدأ الشروع في تبني آليات الالتفاف علـى الدين عن طريق الاستئثار بالسلطة و التحكم ببيت المـال و ترك هوامش لتعبير النـاس عن مظالمهم أمـام قضاء مستقل دون أن يمتد ذلك إلـى ملاحقة الظالمين الكِبـار الذين وُضعوا فوق المحـاسبة .
( 3 )
بعد انهيـار سلطـة الخـلافة و حلول القُطريات و دُويلات التجزئة توسعت الشقة بين الدولة و الأمـة و برزت صراعـات شديدة عكست في الواقع أزمـة الهوية و الشرعية، إذ أن جهـاز الدولة المُستَورَد لم يكن في الحقيقة إلا بدايـة انفصال الرأس عن الجسد و نقطة تحول كبير في أدوار رجال الدعوة و الدولة حيث علتِ الدولة و صارت كِيانـا خـارقا يملك إمكـانية اختراق جميع نواحـي الحياة العـامـة و التأثير في نمـط العـلاقات بين النـاس و التحكم في رغيف العيش مـمـا جعـل بمقدوره تشتيت العقل الجمـاعي و تخريب آليات دفاعـه و تقطيع كـل تكتلات المـمانعـة و زرع أشكـال جديدة تتأسس ثقافتهـا علـى الانبطـاح و التواكلية و الفردانية ، من هنـا تبدأ عمليات المسخ و قلب القيم و تجميد الطـاقات و ترسيخ الأنـانيات الفردية فتنحـل عُـرى الجمـاعـة إلـى كتلة بشريـة فاقدة للإرادة و المبادرة . إن هـذه الوضعيات الجديدة التي تلخصهـا عنوان "الغثائية" لم تكن لتصل هـذا الحد من التردي لولا ارتباط الدولـة بالاستبداد السياسي و لولا جنون السلطـة الجبرية في إخـضاع كـل تيار أو حركـة تحت قبضتهـا، فالدولة البولسية بتركيبتهـا البنيوية تنزع نحـو الداخـل للإخـضاع و تنزع للخـارج للخضوع فتُنـشِــئُ في الداخـل تناحرا اجتمـاعية و تمزقات اقتصادية و تشوهـات دينية و مفاسد أخـلاقية تودي بالأمـة إلـى مهـالك حقيقية لا تقوى بسببهــا علـى مواجهــة التحديات فتكون بذلك ثمرة من ثمرات الاستبداد السياسي الذي أجهـز علـى كـل الإرادات و قتـلَ كـل أكـل للتحرر .
سُذَّجٌ أولئـك الذين يظنون أن الاستبداد السياسي شأن سياسي، فالبعض من الشيوخ الذين يتساهلون مع الظلمـة الفاسدين و يعتقدون بأن تبعـاتـه تعود لذاتـه لا لذات الجمـاعة، هـؤلاء لـم يستوعبوا تحليل عـلاقـة الاستبداد بالأمـة و لم يدركوا حجـم الفرق بين مـا آلت إليهـا الدولـة المعـاصرة من تضخم في الصلاحيات و بين مـا كـانت في المـاضي ، ففي زمننــا يمـارس الاستبداد تأثيرات مفصلية علـى الأمـة بحيث يُنتج بسياساته خرابا هـائلا في البنيات الداخلية "الفوقية" و "التحتية" ممـا يسمح للمستبدين بإحكـام السيطرة علـى كـل أنواع المعارضات و تنويم قطـاعات شعبية و تفكيك عـلاقات القيم و تحويل المجتمع لكومـة قش متراخية تذروهـا الرياح . إنّ ممـا كـان يعطي للمجتمع الإسلامي هيبتـه في الماضي أنه ظـلّ يستمـد عـلاقاته البنـائية من مجالـه التداولي الذي يمثل المرجعية الدينية الكلية إذ سـاعده ذلك علـى بقاء رسالتـه الخـالدة حيّـةً في العقل الجمـاعي مـما جعـل الطـاغية يخشـى دومـا من كلمـة فقيه ثائر أو زعيم معارض، أمــا واقعنـا المعـاصر فقد تحـالفَ الاستبداد مع التغريب القيمي ممـا قضـى علـى كل العوامـل التــي كـانت تمنح الأمـة القوة علـى استنكـار المنكر . إن هـذه الوضعية الجديدة أنتجت تحديات كبيرة جعلت طُلاب التغيير أحيانـا ييأسون من إمكـانية تجاوز سلطـة الواقع و إكراهـاته نظرا لطبيعـة الخراب الهـائل الذي مس العقول و القلوب، فالتغريب هـو الســلاح الثقافي الذي يوظفـه المستبدون لأجـل إحداث فراغـات بين مكونـات المجتمع و هـو الشرط الذي يعين الظلمـة المعـاصرين علـى تفكيك الأمـة لوحدات مهملة يسهـل قضمهـا جملـة .
علــم يتبــخــر ....
يسكت بعض الشيوخ عن داء الاستبداد و يعتبرون بأن الإصلاح ينبغـي أن يكون بالتوعية و الخطب التنبيهية التـي تدور حول العقيدة إجمـالا، لذلك يُكثِـر هـؤلاء من الخِطـابات الدينية و يخطبون علـى الشاشات الفضائية بالحديث عن المواضيع التـي تُحمِّلُ الإنسان مسؤولية أوضاعـه دون أن يضعوا أيديهم علـى الفضاء الذي أنتج الأمراض المتعددة، و المُلاحَظ أن هـؤلاء الصامتين و المُباركين أحيانـا أخرى علـى كثرة ندواتهم و دروسهم إلا أنهم لا يؤسسون لقواعد شعبية جمـاعية قادرة علـى ممارسـة الفعل السياسي التـي تنهـى عن المنكر السلطـاني و تقف ضد المفاسد الكبرى لأن المعرفـة الدينية لا يمكن لهـا وحدهـا أن تصنـع الرجـال في الميدان و لا يمكن لهـا أن تُكسِبَ هـؤلاء الجرأة علــى تحدي الظلم السياسي ، لذلك تجد أتباع هـذا الشيخ أو ذاك لا يكترثون بالهموم الجمـاعية و لا يندمجون في صفوف القضايا الجمـاعية الكبرى بسبب الفردانية الإسلامية التـي زرعهـا بعض الشيوخ العـاجزين في العقول، و تجدُ في المقابل سر نجـاح التنظيمـات الإسلامية في مصر -مثلا- علـى الصمود في الميادين رغم ضراوة العنف المسلط عليهم .
إن العلم الذي لا يلامس الواقع و لا يحوم حول الانتهـاكـات التي تُرتَكب ضد الإنسان هـو علم يتبخـر في الفراغ، فلا فائدة البتـة من فصاحـة لغوية بيانية تُزلزلُ العقول و لا تُحرك القلوب فالرهـان علـى الخطب في إحداث تغيير مجرد وهـم كبير بحكم طبيعـة الدولة البوليسية التـي تلتهم كـل شيء بالتدريج .
( 3 )
بعد انهيـار سلطـة الخـلافة و حلول القُطريات و دُويلات التجزئة توسعت الشقة بين الدولة و الأمـة و برزت صراعـات شديدة عكست في الواقع أزمـة الهوية و الشرعية، إذ أن جهـاز الدولة المُستَورَد لم يكن في الحقيقة إلا بدايـة انفصال الرأس عن الجسد و نقطة تحول كبير في أدوار رجال الدعوة و الدولة حيث علتِ الدولة و صارت كِيانـا خـارقا يملك إمكـانية اختراق جميع نواحـي الحياة العـامـة و التأثير في نمـط العـلاقات بين النـاس و التحكم في رغيف العيش مـمـا جعـل بمقدوره تشتيت العقل الجمـاعي و تخريب آليات دفاعـه و تقطيع كـل تكتلات المـمانعـة و زرع أشكـال جديدة تتأسس ثقافتهـا علـى الانبطـاح و التواكلية و الفردانية ، من هنـا تبدأ عمليات المسخ و قلب القيم و تجميد الطـاقات و ترسيخ الأنـانيات الفردية فتنحـل عُـرى الجمـاعـة إلـى كتلة بشريـة فاقدة للإرادة و المبادرة . إن هـذه الوضعيات الجديدة التي تلخصهـا عنوان "الغثائية" لم تكن لتصل هـذا الحد من التردي لولا ارتباط الدولـة بالاستبداد السياسي و لولا جنون السلطـة الجبرية في إخـضاع كـل تيار أو حركـة تحت قبضتهـا، فالدولة البولسية بتركيبتهـا البنيوية تنزع نحـو الداخـل للإخـضاع و تنزع للخـارج للخضوع فتُنـشِــئُ في الداخـل تناحرا اجتمـاعية و تمزقات اقتصادية و تشوهـات دينية و مفاسد أخـلاقية تودي بالأمـة إلـى مهـالك حقيقية لا تقوى بسببهــا علـى مواجهــة التحديات فتكون بذلك ثمرة من ثمرات الاستبداد السياسي الذي أجهـز علـى كـل الإرادات و قتـلَ كـل أكـل للتحرر .
سُذَّجٌ أولئـك الذين يظنون أن الاستبداد السياسي شأن سياسي، فالبعض من الشيوخ الذين يتساهلون مع الظلمـة الفاسدين و يعتقدون بأن تبعـاتـه تعود لذاتـه لا لذات الجمـاعة، هـؤلاء لـم يستوعبوا تحليل عـلاقـة الاستبداد بالأمـة و لم يدركوا حجـم الفرق بين مـا آلت إليهـا الدولـة المعـاصرة من تضخم في الصلاحيات و بين مـا كـانت في المـاضي ، ففي زمننــا يمـارس الاستبداد تأثيرات مفصلية علـى الأمـة بحيث يُنتج بسياساته خرابا هـائلا في البنيات الداخلية "الفوقية" و "التحتية" ممـا يسمح للمستبدين بإحكـام السيطرة علـى كـل أنواع المعارضات و تنويم قطـاعات شعبية و تفكيك عـلاقات القيم و تحويل المجتمع لكومـة قش متراخية تذروهـا الرياح . إنّ ممـا كـان يعطي للمجتمع الإسلامي هيبتـه في الماضي أنه ظـلّ يستمـد عـلاقاته البنـائية من مجالـه التداولي الذي يمثل المرجعية الدينية الكلية إذ سـاعده ذلك علـى بقاء رسالتـه الخـالدة حيّـةً في العقل الجمـاعي مـما جعـل الطـاغية يخشـى دومـا من كلمـة فقيه ثائر أو زعيم معارض، أمــا واقعنـا المعـاصر فقد تحـالفَ الاستبداد مع التغريب القيمي ممـا قضـى علـى كل العوامـل التــي كـانت تمنح الأمـة القوة علـى استنكـار المنكر . إن هـذه الوضعية الجديدة أنتجت تحديات كبيرة جعلت طُلاب التغيير أحيانـا ييأسون من إمكـانية تجاوز سلطـة الواقع و إكراهـاته نظرا لطبيعـة الخراب الهـائل الذي مس العقول و القلوب، فالتغريب هـو الســلاح الثقافي الذي يوظفـه المستبدون لأجـل إحداث فراغـات بين مكونـات المجتمع و هـو الشرط الذي يعين الظلمـة المعـاصرين علـى تفكيك الأمـة لوحدات مهملة يسهـل قضمهـا جملـة .
علــم يتبــخــر ....
يسكت بعض الشيوخ عن داء الاستبداد و يعتبرون بأن الإصلاح ينبغـي أن يكون بالتوعية و الخطب التنبيهية التـي تدور حول العقيدة إجمـالا، لذلك يُكثِـر هـؤلاء من الخِطـابات الدينية و يخطبون علـى الشاشات الفضائية بالحديث عن المواضيع التـي تُحمِّلُ الإنسان مسؤولية أوضاعـه دون أن يضعوا أيديهم علـى الفضاء الذي أنتج الأمراض المتعددة، و المُلاحَظ أن هـؤلاء الصامتين و المُباركين أحيانـا أخرى علـى كثرة ندواتهم و دروسهم إلا أنهم لا يؤسسون لقواعد شعبية جمـاعية قادرة علـى ممارسـة الفعل السياسي التـي تنهـى عن المنكر السلطـاني و تقف ضد المفاسد الكبرى لأن المعرفـة الدينية لا يمكن لهـا وحدهـا أن تصنـع الرجـال في الميدان و لا يمكن لهـا أن تُكسِبَ هـؤلاء الجرأة علــى تحدي الظلم السياسي ، لذلك تجد أتباع هـذا الشيخ أو ذاك لا يكترثون بالهموم الجمـاعية و لا يندمجون في صفوف القضايا الجمـاعية الكبرى بسبب الفردانية الإسلامية التـي زرعهـا بعض الشيوخ العـاجزين في العقول، و تجدُ في المقابل سر نجـاح التنظيمـات الإسلامية في مصر -مثلا- علـى الصمود في الميادين رغم ضراوة العنف المسلط عليهم .
إن العلم الذي لا يلامس الواقع و لا يحوم حول الانتهـاكـات التي تُرتَكب ضد الإنسان هـو علم يتبخـر في الفراغ، فلا فائدة البتـة من فصاحـة لغوية بيانية تُزلزلُ العقول و لا تُحرك القلوب فالرهـان علـى الخطب في إحداث تغيير مجرد وهـم كبير بحكم طبيعـة الدولة البوليسية التـي تلتهم كـل شيء بالتدريج .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق