ما حقيقة هؤلاء القوم ؟..
(*)
بقلم : عبد المجيد التجدادي
tajdadid@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
داع صيتهم بين سكان الجماعة القروية ، و ملكوا قلوب الكثيرين منهم ؛ فقد بدا لهم أنهم يعطون للناس و لا يأخذون ، و يسعون في خدمتهم ، و خاصة عندما يتعلق الأمر بالنساء القرويات ... و لكن السؤال المزعج يبقى مترددا في أدهان كثيرين : ترى ، ما الذي جاء بهؤلاء إلى هنا ؟.. كيف يتحملون فراق أهليهم و ديارهم و أوطانهم حيث رغد العيش و الترف و الوفرة و اليسر ؟.. كيف يتحملون المكوث في بلادنا حيث الضنك و التهميش و القلة و العسر ؟.. كيف و لِمَ ؟... غريب أمر هؤلاء القوم !!... يدخلون علينا ديارنا ، و يتخللون مجالس نسائنا ، و يتعلمون لساننا ، و يؤكدون حرصهم على خدمتنا بدون مقابل كأنهم هم القائلون : << لا نريد منكم جزاء و لا شكورا >> !!..
ترى ، هل كل هذا مجرد تعاطف إنساني لا تشوبه شائبة ؟..
البعض منا تساورهم الشكوك من نوايا هؤلاء القوم ؛ أليس وراء كل ما يظهرونه من تعاطف إنساني نية خبيثة مبيتة ؟.. و لكن ما هي ؟ أو على الأقل : ما هو بعضها ؟... و كيف السبيل لمعرفة الجواب ؟... أم أن تلك الشكوك نفسها مجرد هواجس مرضية لا مبرر لها ؟
كان و ما يزال من مشاكل منطقتنا المهمشة المعزولة انخفاض نسبة التعليم ، و ارتفاع حجم الهدر المدرسي . و تشتد هذه الظاهرة أكثر في صفوف الفتيات ؛ فولوجهن إلى المدرسة الابتدائية يعد مكسبا عظيما . أما الوصول إلى التعليم الثانوي فمجرد حلم يراودهن ، تَحَقّقُه يكاد يكون مستحيلا .
السيد "حمو" ، أحد فقراء القرية ، استطاع بقوة طموحه و حبه لابنته فاطمة أن يمكنها من فرصة التعلم بالمدرسة الابتدائية الواقعة على بعد ساعة من المنزل ، و هو الآن يريد أن يلبي رغبتها في مواصلة درب تعليمها بولوج مستوى التعليم الثانوي مكافأة لها على ما أبانته من اجتهاد و تفوق و حسن أخلاق ... و لكن الثانوية هناك بعيدا في المدينة الكبيرة ، فكيف له أن يلبي للفتاة رغبتها : أين المأوى ؟ و كيف يتركها هناك لوحدها بعيدا عن عين حرصه و رعايته ؟.. البُنَية عزيزة على قلب أبيها و هو في حيرة من أمره : فلا ظروفه المادية الصعبة تسمح له بإرسالها ، و لا قلبه يطاوعه لفراقها . آه !.. هذا هم جديد ينضاف إلى ركام الهموم التي ينوء بها حِمل السيد "حمو" . ليته كان يملك بيتا هناك في المدينة كما هو شأن بعض ميسوري الحال من أبناء المنطقة ، أو ليت له عائلة هناك يستودعها ابنته . آه ! ما باليد حيلة ؛ فما العمل ؟..
الآنسة "ماركاريت" واحدة من هؤلاء الغرباء الذين حلوا بالمنطقة مند سنوات عديدة حتى أنك لا تستطيع أن تميزها عن سكانها إلا إذا أفصحت بلسانها الإنجليزي ؛ فلغة الأهالي تتقنها ، و عاداتهم تعرفها ، و مجالسهم تغشاها ... و تؤكد غير ما مرة أنها هنا لخدمة "الإنسانية المحرومة" .
وصلت أصداء حيرة السيد "حمو" إلى الآنسة "ماركاريت" فبادرت إلى تفريج كربته بعرض الحل : إرسال ابنته للإقامة بمؤسسة داخلية تستقبل الحالات المشابهة لحالة فاطمة ؛ استقبال الفتيات القرويات المهددات بوأد طموحهن الدراسي .
هلل الأب و هللت الأم و هللت البنية لبادرة الآنسة "ماركاريت" ، غير أن بعضا من الريبة ما تزال في النفوس . سارع السيد "حمو" إلى استشارة من يثق بهم . لا أحد من هؤلاء أشار عليه بما يشفي الغليل ، فالكل يجهل بحقيقة الآنسة و مؤسستها . "المقدم" نفسه لا يعلم عن حقيقتها شيئا . غير أنهم جميعا دعوه إلى أن يجرب حظه معها و كذلك فعل .
تقول فاطمة و هي تحكي قصتها مع تلك المؤسسة الداخلية :
<< كانت المؤسسة كبيرة بما يكفي لإيواء عشرات الفتيات إن لم يكن أكثر من ذلك . هي الأخرى مثل الكثير من المؤسسات التطوعية ترفع شعار "تشجيع تمدرس الفتاة القروية" ؛ لهذا السبب يبدو أنها تجد لها ما يكفي من التعاطف و الآذان الصاغية و الآيادي الممدودة بالمساعدة . غير أن ما لفت انتباهي مند ولجت إليها أن كل الأطر القائمين عليها أجانب من نفس طينة الآنسة "ماركاريت" >> .
<< دخلتُ إليها رفقة صديقة لي جمعتنا صفوف المدرسة الابتدائية . فوجدنا أن المكان يأوي فتيات قدِمْن من المناطق القروية المجاورة ، كلهن من الفئات الفقيرة مثلنا . غير أن هندامهن و سلوكاتهن لا تكاد تشي بشيء من أصلهن القروي ؛ لهذا فقد كان من اللافت جدا هندامنا و طريقة تعاملنا نحن الاثنتان القادمتان للتو من أصولنا القروية . كنت أنا أرتدي قميصا و تنورة طويلة مع منديل بسيط أغطي به شعري ، أما زميلتي فقد كانت ترتدي جلبابا مغربيا و خمارا يمتد إلى صدرها . كنا في الأول محط تهكم الفتيات نزيلات المؤسسة كأننا قادمات من كوكب آخر . أما فيما بعد فقد أصبحنا محط النقد و التجريح و الإهانة تارة و الإغراء تارة أخرى من طرف الأطر أنفسهم ، و خاصة من طرف الآنسة "ماركاريت" >> .
<< لقد كانت "ماركاريت" تتحين أية فرصة نرتكب فيها أدنى خطأ لكي تكشف لنا عن حقيقة وجه رسالتها "الإنسانية المجردة" . كانت كل مرة تكرر على مسامعنا أنا و زميلتي هذه الرسائل :
ــ كأنكن همجيات ، ألا تعرفن من رقي الحضارة شيئا ؟!...
ــ اتركن عليكن عوائد الجبل الهمجية ، فأنتن الآن في المدينة !...
ــ ما تلبسنه الآن من تلك الألبسة الطويلة لا يناسبكن أبدا ، لقد جعلكن أكبر سنا !..
ــ كفى من ارتداء هذه الألبسة البالية ألبسة العواجيز !..
ــ أنتن فتيات جميلات في ريعان شبابكن ، عليكن بارتداء ألبسة تكشفن بها عن أنوثتكن و تظهرن بها تناسق أجسادكن الفتانة !... تمتعن بأنفسكن يا حسناوات !..
ــ لن تناسبكن سوى الأقمصة القصيرة و سراويل "الجينز" و "السليم" ، فهي القادرة على كشف بهاء حسنكن و سحركن !..
لقد كانت تتحين كل فرصة للنيل من قيمنا و تحقيرها مقابل الإعلاء من شأن القيم التي تؤمن بها هي : فقيمنا و عاداتنا همجية بالية لا تليق إلا بالعواجيز ... و العواجيز لا يليق بهن سوى الموت و القبر !!.. >> .
<< لم نستطع أنا و زميلتي تحمل رسائل الإهانة و الإغراء تلك ، فكان ذلك سببا في انسحبنا من تلك المؤسسة و عدنا إلى قريتنا ننتظر حتى يسر الله لنا حل الحصول على منحة للإقامة بقسم داخلي داخل ثانوية عمومية . لم تكن أحسن حالا من الأولى ، و لكنها على الأقل أأمن و أسلم . و فيها قضينا سنوات دراستنا الثانوية حتى الحصول على شهادة البكالوريا ، و الحمد لله >> .
تقول فاطمة و هي تستحضر تجربتها ، و تحاول من خلالها فك جزء من أسرار القوم الأجانب الذين يحلون بقريتها بين الحين و الآخر في إطار شعار "التعاون الدولي و الإنساني" : << يبدو لي بأن هؤلاء القوم ربما مقتنعون بأنهم لن يغيروا من ديننا شيئا ..؛ غير أنهم يطمعون على الأقل في تغيير أو تشويه أخلاقنا . و هنا أستحضر رسائل الآنسة "ماركاريت" التي تركز على هدم أخلاق الحشمة و الحياء مقابل إعلاء بنيان ثقافة الملابس القصيرة و اللاصقة ، ثقافة "الجينز" و "السليم" ، ثقافة "المريكان" ... كما أتذكر مشهدا بقي عالقا بدهني أيام دراستي الابتدائية أظن الآن أنني فهمت غايته : فقد كان بقريتنا شاب و شابة من أولئك القوم الأجانب . كنا نحن الصغار و الشابات من بنات القرية نجلس إلى الشابة الأجنبية نشبع فضولنا في محاولة لمعرفتها و معرفة ما وراءها ، و كان كل مرة يأتي رفيقها لزيارتها مقتحما علينا حَرَم مجلسنا يبدأ بتحيتها بتقبيلها قبلات غريبة أثارت خجلنا في الأول ، غير أننا أخذنا في التعود عليها رويدا رويدا مع مرور الأيام >> .
لعل الرسالة أصبحت واضحة ، و اتضحت معها النية المبيتة : القوم يعملون بنفس طويل لا يكل و لا يمل لسنوات ، يسعون بجد في العمل على حقل نفوسنا ؛ يجتثون من تربتها القيم و الأخلاق التي ورثناها جيلا عن جيل ليغرسوا مكانها قيمهم و أخلاقهم القادمة من هناك وراء البحار ... يسلخوننا من ذواتنا لكي يلبسونا ذواتهم ... إنها قصة الشيطان تتكرر من جديد : فهو إن أيس من أن يكفر الناس ، فإنه يطمع على الأقل في النيل من إيمانهم ببعض الضعف .
الشيطان ينفد إلى الناس من باب مصالحهم ..؛ لهذا لا نريد لشعارات "التعاون الإنساني" و "التعاون الدولي" أن تكون منافد لـ"الاستعمار الجديد" تماما كما كانت "نوايا إنسانية" كثيرة منافذ للاستعمار القديم .
كما أن هذا يلح علينا نحن جميعا أبناء هذا الوطن ألا نترك لغريبٍ فرصةً لكي يمن علينا ببعض فتات عطاياه ، يعلو بيده علينا فيرمقنا هو من قمة و نتطلع إليه نحن من حفرة ... أهل اليسر في هذا البلد ما أكثرهم ، و أن ينفقوا الخير في هذا الباب أولى من أبواب أخرى ، و هذا ليس بغريب على رصيدنا التاريخي الزاخر بشواهد كثيرة من البذل و العطاء لأجل طلاب العلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(*) الشخصيات مستعارة ، و لكن الأحداث حقيقية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق