زيد السوايع في ظهر المعلوف: المقدمة
الحرب المعلنة التي تخوضها وزارة التربية الوطنية على المتعاطين للساعات الإضافية المؤدى عنها، تعكس بوضوح أزمة التعليم بالمغرب، فهي ليست فقط أزمة برامج ومناهج، ولا أزمة حكامة كما يقال عادة، بل هي أزمة تدبير أساسا.
فالوزير أصاب في تشخيصه لأحد أوجه أزمة التعليم، وأقصد أزمة الاسترزاق بتعليم أبناء المغاربة، ولكنه أخطأ في تعميم انتقاده لكل المدرسين، بل وأخطأ عندما استند لتكافؤ الفرص في محاربة الساعات الإضافية، وخرق هذا المبدأ ذاته في ضبط التعليم الخصوصي، إذ ما معنى أن تخوض الوزارة حربها «زنقة زنقة» ضد المدرسين وتنسى المفتشين، لاسيما وأن من هؤلاء من لم يزر مدرسين يحتاجون لترقيات طيلة سنوات، بينما يترددون يوميا على مدارس خاصة مجاورة؟
ما معنى أن يمارس الوزير «التبوريدة» في منع المدرسين من الساعات الإضافية، وفي نفس الوقت يدس رأسه في الرمال كالنعامة أمام لوبيات التعليم الخاص؟
قد يقول قائل ما العلاقة بين الساعات الخصوصية غير المنظمة والتعليم الخاص، وهو تعليم منظم ويخضع لقوانين؟
والجواب يمكن إيجاده بسهولة من خلال حدثين شهدهما الأسبوع الماضي، ففي الوقت الذي وقع فيه بلمختار مذكرة يأمر فيها النواب ومديري الأكاديميات بممارسة الرقابة الشديدة على المدرسين، طار الوزير لترؤس اجتماع المجلس الإداري بمكناس واعترف حرفيا بأن «التعليم الخصوصي خرج لينا من يدينا».
فأن تقدم سلطة حكومية على اعتراف مماثل، معناه أنها أصبحت بموجب عجزها هذا شريكة في كل اختلالات مدرسة الشعب، لأن التعليم الخصوصي، وباعتراف الوزير ذاته، أضحى يخضع لأسوأ ما يوجد في قيم السوق، حيث المنافسة غير الشريفة، والتحايل على آباء وأولياء التلاميذ.
فإذا كان مبرر بلمختار في حربه على الساعات الإضافية كما تقول مذكرته، هو «تخليق المنظومة التربوية وتكريس النزاهة والقيم وثقافة الواجب، وحماية حقوق المتعلم ومبدأ تكافؤ الفرص، وضمان الاستفادة العادلة والمنصفة للجميع من خدمات التربية والتكوين العمومية»، فإن ظواهر كثيرة موجودة في قطاع التربية تجسد بالملموس انعدام النزاهة وغياب القيم وهيمنة ثقافة الحق، وضرب حقوق المتعلمين، بل وتكريس التمييز بين أبناء المغاربة في حقهم الطبيعي والإنساني في التعليم.
فعندما انتقدنا في عمودنا هذا قبل شهر، توظيف مديرية المناهج بالوزارة لدراسة أمريكية مشكوك في علميتها، للتغطية على خطايا المناهج الدراسية وصفقات الكتب المدرسية المشبوهة، وتحويل الرأي العام نحو المدرسين، كنا ننتظر، من باب الشفافية والنزاهة التي يتكلم عنها الوزير، أن يوضح للرأي العام لماذا لم تتغير المناهج الدراسية منذ 12 سنة، علما أن دفاتر التحملات تؤكد على تغييرها كل ثلاث سنوات؟
وانتظرنا أن يوضح للرأي العام ما هو عدد الشركات التي تحتكر سوق الكتاب المدرسي، لكنه لم يفعل، والخطير هو أن يوضح للرأي العام حقيقة المساومات التي تمارسها هذه الشركات الاحتكارية لمشروع ملكي من حجم مليون محفظة.
إذن إذا كان الوزير يؤمن بالنزاهة، وهي قيمة أخلاقية مطلقة لا تخضع لتكييف أو تجزيء، عليه أن يبدأ بتنظيف المصالح المركزية لوزارته حيث العلاقات الحزبية والجهوية والعائلية في تفويت الصفقات والحصول على الترقيات، وإلا هل لبلمختار أن يوضح للرأي العام طبيعة علاقة مديرية التعاون الدولي بالمنظمات الدولية التي تستبيح تعليمنا منذ تعيينه في حكومة بنكيران؟
كيف يتم تفويت الدراسات الدولية لبعض المحظوظين تحت يافطة «خبراء»؟
وكيف يستفيد بعض المتقاعدين في الوزارة من صفقات، لكونهم غادروا المكاتب الرسمية ولكنهم عادوا للمنظومة من خلال مكاتب دراسات؟
ثم هل لبلمختار، من باب النزاهة والشفافية التي يتغنى بها، أن يوضح للرأي العام الطريقة التي تدبر بها مديرية الرياضة المدرسية صفقات المعدات الرياضية التي يتم وضعها في المؤسسات التعليمية؟
والأخطر لماذا لا تخضع هذه المعدات للمعايير الدولية المعمول بها، من قبيل حجم مختلف الكرات ووزنها وجودتها؟
ثم هل له أن يحارب الفساد الواضح في مديرية التعليم الخصوصي، والمتورطة في منح تراخيص صورية لبعض المؤسسات الخصوصية الفاقدة لكل المواصفات؟
وماهي النتائج الملموسة لكيان إداري مركزي يتم تمويله من المال العمومي يسمى «الوحدة المركزية للبحث التربوي»؟ وكيف يستفيد الأصدقاء والأهل من «مشاريع» البحث في الأكاديميات؟
وقبل هذا وذاك، أين هي نتائج الافتحاصين اللذين قام بهما الوزير السابق للبرنامج الاستعجالي؟ لماذا لم يحاسب المسؤولون عن الفساد المنظم الذي عرفه هذا البرنامج، وبعضهم ما يزال إلى الآن مسؤولا، سواء مركزيا أو جهويا؟
أليس ضربا للنزاهة وعرقلة لسير المرفق العمومي، بموجب القانون، أن يتغاضى الوزير عن مسؤولي الوزارة، الحاليين والسابقين، والذين ما يزالون يحتلون السكن الوظيفي؟
ما نريد قوله هنا، هو إذا كان الوزير يتكلم عن ثقافة الواجب، فإن هذه الثقافة تقتضي أيضا محاسبة المقصرين في أداء واجبهم، ليس عبر القفز فوق الحائط القصير الذي هو المدرسون، بل وفي مختلف مستويات المسؤولية في الوزارة، فربط المسؤولية بالمحاسبة لا يعني فقط رجال التعليم.
صحيح أن هذا المبدأ ينبغي تعميمه، ليشمل مسؤولية المدرسين عن نتائج تلامذتهم، وهذا في نظرنا أمر صحي وحيوي، لتطوير الأداء والاجتهاد لتحسين مستوى التدريس. لكن إذا اقتصر المبدأ على المدرسين وحدهم دون غيرهم، فإن نتائج تطبيقه ستكون عكسية تماما، وإلا هل يعتقد بلمختار أنه قادر بالقانون وحده على أن يقضي على ظاهرة الساعات الخصوصية، علما أن قانون الوظيفية العمومية الذي يعود لسنة 1958 يمنعها؟
رشيد نيني
نحن إذن أمام تناقض، فبمقابل نفخ الريش على المدرسين نجد عجزا تاما على مواجهة طوفان التعليم الخصوصي، والذي يجسد أكبر ضرب لمبدأ تكافؤ الفرص.
فإذا كان المدرس الذي يبتز تلامذته بالنقط ليكونوا زبائن له في ساعاته الإضافية، شخصا لا يستحق أن يحمل صفة مربي، بل ويعتبر عالة على قطاع التعليم، لذلك يجب متابعته «زنقة زنقة»، فإن الذي يفوت أيضا صفقة بعشرات الملايين لصديق له، أو يضع مذكرة للحصول على منصب على مقاس «ولد بلادو» أو «ولد عائلتو أو نسيبو» هو أيضا يعتبر عالة على القطاع ويجب محاربته «مكتب مكتب» و«مصلحة مصلحة» و«مديرية مديرية».
لقد لاحظنا أنه منذ مجيء بلمختار وهو لا يفوت فرصة تمر دون أن ينتقد ويهاجم المدرسين، وعندما يُسأل عن البديل يجيب أنه لا زال يفكر فيه، وها هما سنتان مرتا والرجل ما يزال ينتقد من أجل الانتقاد دون أن يقدم بديلا، فنستنتج إذن أن الموضة الجديدة في الوزارة هي تحميل المسؤولية للحلقة الأضعف في المنظومة التربوية، وهو رجل التعليم، بسبب تشرذم النقابات وضعفها وانشغالاها بحسابات الأحزاب التابعة لها.
إن مشكلة قطاع التعليم أكبر من أن تنسب للمدرسين وحدهم، لأن المنظومة التي استقبلت عشرات الآلاف من المدرسين في حكومة عباس الفاسي، دون أن يستفيدوا من التكوين المباشر هم في الحقيقة ضحايا وليسوا مسؤولين. فالإدارة، أي إدارة، تعتبر مسؤولة أولا وأخيرا عن تطوير كفاءة العاملين بها، لذلك فالمشكلة في عمومها مرتبطة أساسا باستئساد ذهنيات غير جيدة على مختلف مستويات المنظومة التربوية.
ولا تشكل الوزارة في حد ذاتها استثناء، بدءا من المدرس، مرورا بالإدارة التربوية والإشراف التربوي، وصولا إلى المسؤولين الإقليميين والجهويين والمركزيين. فعندما يدمن بعض المدرسين، وهم الذين قضوا في التدريس ما يفوق العشرين سنة، على الحديث عن انحدار المستوى المعرفي والأخلاقي للمتعلمين، أليس من البديهي أن تكون لهم مسؤولية في هذا الوضع؟
وعندما يكتفي بعض المدرسين بمستواهم المعرفي الذي تلقوه منذ أيام «اللوحة والدواية»، ولا ينتبهون لضعف تكوينهم وعدم مواكبتهم للمستجدات البيداغوجية إلا أياما قبل الامتحانات المهنية، للسعي لترقية دخلهم المادي لا لترقية ممارساتهم الفصلية، وعندما يستغل بعض هؤلاء حالة التسيب النقابي فيقررون خوض إضرابات مع جميع النقابات، بغض النظر عن هويتها أو مطالبها، وعندما لا يهتم البعض الآخر بجودة تدريسهم في فصول المؤسسة العمومية، اللهم إلا في المرائب التي حولوها إلى فصول للتعليم الخاص ليدرسوا نفس متعلميهم في التعليم العام، حيث المنافسة مع إخوانهم من تجار العلم، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين عن ضعف جودة التعليم؟
وعندما يختار بعض المفتشين السكن بعيدا عن مقرات عملهم في سُنة سيئة أضحت تميز هذه الفئة من الموظفين العموميين عن غيرهم، ليتفرغ أغلبهم لأعمال مدرة لدخل ثان، مثل السمسرة في السيارات والعقارات والفلاحة، مكتفين بزيارة لمدة ساعة من الزمن في السنة على الأكثر لمدرسين من النوعية سابقة الذكر، بدل البحث والتأطير التربويين المستمرين، وعندما يعمل البعض الآخر على ابتزاز المدرسين الراغبين في الاستفادة من الترقية بالاختيار، بدل أن يكون الإشراف التربوي الحريص الأول على قيمة الإنصاف عندما يقوم الأداء بحسب الكفاية والقدرة لا بحسب الانتماء النقابي أو الحزبي أو حتى العائلي، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين عن اختلالات التعليم؟
وعندما يحول بعض مديري الأكاديميات مقرات عملهم إلى قلاع محصنة على غرار قلاع روما القديمة، يحرسها عملاء حراسة خاصة، أوكلت لهم مهمتان، طرح الأسئلة العديدة والجواب الواحد «مكاينش»، بدل التواصل المستمر للمسؤول الجهوي مع الموظفين المشتكين من جور رؤسائهم أو بُعد أسرهم، عندما يعتمد البعض الآخر على سياسة الصناديق السوداء للتغطية على ضعف التسيير، بالاعتماد على الدروب المظلمة التي تميز الصفقات العمومية في هذا البلد، حتى إذا أزفت ساعة التغيير في الوزارة الوصية، فإنهم يعملون على عقد الندوات تلو الندوات تتناول أهمية والحاجة إلى اعتماد الحكامة الجيدة في التدبير، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين أيضا عن اختلالات التعليم؟
إن الحل الناجع ليس مراقبة المدرسين حول إضافة الساعات الخصوصية، بل في جملة قرارات تحتاج لشجاعة سواء على مستوى تكوينهم أو القضاء على الاكتظاظ. فلا معنى لأن يحرص الوزير على التكوين الجيد للمدرسين دون أن يعمل على تفعيل المرسوم المحدث للمراكز، وإخراجه القوانين التنظيمية اللازمة لتكون مراكز تكوين حقيقية وفعالة، ولا معنى للقضاء على الساعات الإضافية التي يلجأ إليها الآباء مكرهين وأبناؤهم يدرسون في أقسام مكتظة بما يفوق أربعين أو خمسين تلميذا، ولا معنى لكل هذا إذا كنا سنعتمد على منطق «الخريطة المدرسية» في النجاح، بشكل يسمح بنجاح تلاميذ بمعدل 20/5. ولا معنى لهذا والوزير ورئيس حكومته، يتعاملان بانتقائية واضحة مع المدارس الخصوصية.
وعندما نقول رئيس الحكومة، فليس للأمر علاقة بقصة إسقاط الطائرة في الحديقة، بل فشل رئيس الحكومة في فرض الاتفاقية التي وقعها مع أرباب التعليم الخصوصي، والذين يقودهم أحد أصدقائه المقربين في سلا، على تشغيل خريجي برنامج 10 آلاف مدرس، وهذا دليل على أننا بصدد وزارة وحكومة عاجزتين تماما، ما يطرح في نظرنا مشكلة تربوية عميقة هي: كيف لمدرس يعتبر «غير كفؤ» في التعليم العمومي أن يكون ضامنا للجودة في التعليم الخصوصي؟
فالمشكلة من الناحية التربوية خطيرة جدا، إذ أن أغلب مدرسي هذه المدارس الخاصة هم من التعليم العمومي، لكون المستثمر في هذا القطاع يتعامل بعقلية استثمارية خالصة، تماما كمن يستثمر في أي قطاع خدماتي. فعندما يطلب مجموعة من الآباء مدرسا معينا في تخصص معين، فإن على مدير هذه المدرسة الخاصة العمل على توفيره مهما كان الثمن، والأخطر هو أنه يتم التلاعب بأرقام الموارد البشرية المقدمة للوزارة الوصية. فبحسب القوانين الجاري بها العمل يجب التركيز على مدرسين لا ينتمون للقطاع العام، وإن فعلوا فيجب احترام عدد الساعات المخصصة لكل مدرس وهي في أغلبها ست ساعات أسبوعيا، لكن الذي يحصل شيء آخر تماما .
إننا نتكلم عن آلاف الساعات غير المرخص بها سنويا، حيث يلجأ بعض المستثمرين في هذا القطاع إلى تزوير الوثائق الرسمية المصرحة بعدد الساعات، كأن تجد مدرسا يدرس ست ساعات على الورق، وعشرين ساعة في «النوار»، أما كيف ذلك؟ فإن مديري المدارس الخصوصية يستقدمون عاطلين بعقد عمل يتضمن التدريس لـ24 ساعة مثلا في حين أنهم يدرسون 8 ساعات فقط، والباقي يعطى لمدرس عمومي، بل ومن المدارس من تضع فاتورة خاصة للدعم التربوي مع أنه من الناحية التربوية الخالصة فهو جزء من عملية التعليم ككل تماما كما الامتحانات. وفي المحصلة يتحول التعلم والتكوين من هاجس اجتماعي خاضع لاستراتيجية الدولة، إلى هاجس أسري خاضع لجشع المستثمرين في المعرفة. إذن أين النزاهة وتكافؤ الفرص آلسي بلمختار؟
وفي تقديرنا الشخصي، لا يقف الأمر عند العجز فقط، بل إن رئيس الحكومة متواطئ مع مصاصي الدماء في التعليم الخصوصي، ليس فقط لكونه هو أيضا صاحب مدارس خاصة تتواجد في شارع ابن تومرت بالرباط، وصديقه «السلاوي» الذي يضمن له أصوات سلا من أكبر المالكين للمدارس الخصوصية، بل لأن الأمر يتعلق بسياسة ممنهجة، ومن يعود لخطاب ألقاه بنكيران يدعو فيه الدولة إلى رفع يديها عن قطاعي الصحة والتعليم، سيستنتج أن عدم التحكم في التعليم الخصوصي ليس مرده فقط للعجز، بل وأساسا وجود سياسة حكومية واضحة لرمي تعليم أبناء المغاربة وصحتهم إلى «ذئاب القطاع الخاص».
الحرب المعلنة التي تخوضها وزارة التربية الوطنية على المتعاطين للساعات الإضافية المؤدى عنها، تعكس بوضوح أزمة التعليم بالمغرب، فهي ليست فقط أزمة برامج ومناهج، ولا أزمة حكامة كما يقال عادة، بل هي أزمة تدبير أساسا.
فالوزير أصاب في تشخيصه لأحد أوجه أزمة التعليم، وأقصد أزمة الاسترزاق بتعليم أبناء المغاربة، ولكنه أخطأ في تعميم انتقاده لكل المدرسين، بل وأخطأ عندما استند لتكافؤ الفرص في محاربة الساعات الإضافية، وخرق هذا المبدأ ذاته في ضبط التعليم الخصوصي، إذ ما معنى أن تخوض الوزارة حربها «زنقة زنقة» ضد المدرسين وتنسى المفتشين، لاسيما وأن من هؤلاء من لم يزر مدرسين يحتاجون لترقيات طيلة سنوات، بينما يترددون يوميا على مدارس خاصة مجاورة؟
ما معنى أن يمارس الوزير «التبوريدة» في منع المدرسين من الساعات الإضافية، وفي نفس الوقت يدس رأسه في الرمال كالنعامة أمام لوبيات التعليم الخاص؟
قد يقول قائل ما العلاقة بين الساعات الخصوصية غير المنظمة والتعليم الخاص، وهو تعليم منظم ويخضع لقوانين؟
والجواب يمكن إيجاده بسهولة من خلال حدثين شهدهما الأسبوع الماضي، ففي الوقت الذي وقع فيه بلمختار مذكرة يأمر فيها النواب ومديري الأكاديميات بممارسة الرقابة الشديدة على المدرسين، طار الوزير لترؤس اجتماع المجلس الإداري بمكناس واعترف حرفيا بأن «التعليم الخصوصي خرج لينا من يدينا».
فأن تقدم سلطة حكومية على اعتراف مماثل، معناه أنها أصبحت بموجب عجزها هذا شريكة في كل اختلالات مدرسة الشعب، لأن التعليم الخصوصي، وباعتراف الوزير ذاته، أضحى يخضع لأسوأ ما يوجد في قيم السوق، حيث المنافسة غير الشريفة، والتحايل على آباء وأولياء التلاميذ.
فإذا كان مبرر بلمختار في حربه على الساعات الإضافية كما تقول مذكرته، هو «تخليق المنظومة التربوية وتكريس النزاهة والقيم وثقافة الواجب، وحماية حقوق المتعلم ومبدأ تكافؤ الفرص، وضمان الاستفادة العادلة والمنصفة للجميع من خدمات التربية والتكوين العمومية»، فإن ظواهر كثيرة موجودة في قطاع التربية تجسد بالملموس انعدام النزاهة وغياب القيم وهيمنة ثقافة الحق، وضرب حقوق المتعلمين، بل وتكريس التمييز بين أبناء المغاربة في حقهم الطبيعي والإنساني في التعليم.
فعندما انتقدنا في عمودنا هذا قبل شهر، توظيف مديرية المناهج بالوزارة لدراسة أمريكية مشكوك في علميتها، للتغطية على خطايا المناهج الدراسية وصفقات الكتب المدرسية المشبوهة، وتحويل الرأي العام نحو المدرسين، كنا ننتظر، من باب الشفافية والنزاهة التي يتكلم عنها الوزير، أن يوضح للرأي العام لماذا لم تتغير المناهج الدراسية منذ 12 سنة، علما أن دفاتر التحملات تؤكد على تغييرها كل ثلاث سنوات؟
وانتظرنا أن يوضح للرأي العام ما هو عدد الشركات التي تحتكر سوق الكتاب المدرسي، لكنه لم يفعل، والخطير هو أن يوضح للرأي العام حقيقة المساومات التي تمارسها هذه الشركات الاحتكارية لمشروع ملكي من حجم مليون محفظة.
إذن إذا كان الوزير يؤمن بالنزاهة، وهي قيمة أخلاقية مطلقة لا تخضع لتكييف أو تجزيء، عليه أن يبدأ بتنظيف المصالح المركزية لوزارته حيث العلاقات الحزبية والجهوية والعائلية في تفويت الصفقات والحصول على الترقيات، وإلا هل لبلمختار أن يوضح للرأي العام طبيعة علاقة مديرية التعاون الدولي بالمنظمات الدولية التي تستبيح تعليمنا منذ تعيينه في حكومة بنكيران؟
كيف يتم تفويت الدراسات الدولية لبعض المحظوظين تحت يافطة «خبراء»؟
وكيف يستفيد بعض المتقاعدين في الوزارة من صفقات، لكونهم غادروا المكاتب الرسمية ولكنهم عادوا للمنظومة من خلال مكاتب دراسات؟
ثم هل لبلمختار، من باب النزاهة والشفافية التي يتغنى بها، أن يوضح للرأي العام الطريقة التي تدبر بها مديرية الرياضة المدرسية صفقات المعدات الرياضية التي يتم وضعها في المؤسسات التعليمية؟
والأخطر لماذا لا تخضع هذه المعدات للمعايير الدولية المعمول بها، من قبيل حجم مختلف الكرات ووزنها وجودتها؟
ثم هل له أن يحارب الفساد الواضح في مديرية التعليم الخصوصي، والمتورطة في منح تراخيص صورية لبعض المؤسسات الخصوصية الفاقدة لكل المواصفات؟
وماهي النتائج الملموسة لكيان إداري مركزي يتم تمويله من المال العمومي يسمى «الوحدة المركزية للبحث التربوي»؟ وكيف يستفيد الأصدقاء والأهل من «مشاريع» البحث في الأكاديميات؟
وقبل هذا وذاك، أين هي نتائج الافتحاصين اللذين قام بهما الوزير السابق للبرنامج الاستعجالي؟ لماذا لم يحاسب المسؤولون عن الفساد المنظم الذي عرفه هذا البرنامج، وبعضهم ما يزال إلى الآن مسؤولا، سواء مركزيا أو جهويا؟
أليس ضربا للنزاهة وعرقلة لسير المرفق العمومي، بموجب القانون، أن يتغاضى الوزير عن مسؤولي الوزارة، الحاليين والسابقين، والذين ما يزالون يحتلون السكن الوظيفي؟
ما نريد قوله هنا، هو إذا كان الوزير يتكلم عن ثقافة الواجب، فإن هذه الثقافة تقتضي أيضا محاسبة المقصرين في أداء واجبهم، ليس عبر القفز فوق الحائط القصير الذي هو المدرسون، بل وفي مختلف مستويات المسؤولية في الوزارة، فربط المسؤولية بالمحاسبة لا يعني فقط رجال التعليم.
صحيح أن هذا المبدأ ينبغي تعميمه، ليشمل مسؤولية المدرسين عن نتائج تلامذتهم، وهذا في نظرنا أمر صحي وحيوي، لتطوير الأداء والاجتهاد لتحسين مستوى التدريس. لكن إذا اقتصر المبدأ على المدرسين وحدهم دون غيرهم، فإن نتائج تطبيقه ستكون عكسية تماما، وإلا هل يعتقد بلمختار أنه قادر بالقانون وحده على أن يقضي على ظاهرة الساعات الخصوصية، علما أن قانون الوظيفية العمومية الذي يعود لسنة 1958 يمنعها؟
رشيد نيني
نحن إذن أمام تناقض، فبمقابل نفخ الريش على المدرسين نجد عجزا تاما على مواجهة طوفان التعليم الخصوصي، والذي يجسد أكبر ضرب لمبدأ تكافؤ الفرص.
فإذا كان المدرس الذي يبتز تلامذته بالنقط ليكونوا زبائن له في ساعاته الإضافية، شخصا لا يستحق أن يحمل صفة مربي، بل ويعتبر عالة على قطاع التعليم، لذلك يجب متابعته «زنقة زنقة»، فإن الذي يفوت أيضا صفقة بعشرات الملايين لصديق له، أو يضع مذكرة للحصول على منصب على مقاس «ولد بلادو» أو «ولد عائلتو أو نسيبو» هو أيضا يعتبر عالة على القطاع ويجب محاربته «مكتب مكتب» و«مصلحة مصلحة» و«مديرية مديرية».
لقد لاحظنا أنه منذ مجيء بلمختار وهو لا يفوت فرصة تمر دون أن ينتقد ويهاجم المدرسين، وعندما يُسأل عن البديل يجيب أنه لا زال يفكر فيه، وها هما سنتان مرتا والرجل ما يزال ينتقد من أجل الانتقاد دون أن يقدم بديلا، فنستنتج إذن أن الموضة الجديدة في الوزارة هي تحميل المسؤولية للحلقة الأضعف في المنظومة التربوية، وهو رجل التعليم، بسبب تشرذم النقابات وضعفها وانشغالاها بحسابات الأحزاب التابعة لها.
إن مشكلة قطاع التعليم أكبر من أن تنسب للمدرسين وحدهم، لأن المنظومة التي استقبلت عشرات الآلاف من المدرسين في حكومة عباس الفاسي، دون أن يستفيدوا من التكوين المباشر هم في الحقيقة ضحايا وليسوا مسؤولين. فالإدارة، أي إدارة، تعتبر مسؤولة أولا وأخيرا عن تطوير كفاءة العاملين بها، لذلك فالمشكلة في عمومها مرتبطة أساسا باستئساد ذهنيات غير جيدة على مختلف مستويات المنظومة التربوية.
ولا تشكل الوزارة في حد ذاتها استثناء، بدءا من المدرس، مرورا بالإدارة التربوية والإشراف التربوي، وصولا إلى المسؤولين الإقليميين والجهويين والمركزيين. فعندما يدمن بعض المدرسين، وهم الذين قضوا في التدريس ما يفوق العشرين سنة، على الحديث عن انحدار المستوى المعرفي والأخلاقي للمتعلمين، أليس من البديهي أن تكون لهم مسؤولية في هذا الوضع؟
وعندما يكتفي بعض المدرسين بمستواهم المعرفي الذي تلقوه منذ أيام «اللوحة والدواية»، ولا ينتبهون لضعف تكوينهم وعدم مواكبتهم للمستجدات البيداغوجية إلا أياما قبل الامتحانات المهنية، للسعي لترقية دخلهم المادي لا لترقية ممارساتهم الفصلية، وعندما يستغل بعض هؤلاء حالة التسيب النقابي فيقررون خوض إضرابات مع جميع النقابات، بغض النظر عن هويتها أو مطالبها، وعندما لا يهتم البعض الآخر بجودة تدريسهم في فصول المؤسسة العمومية، اللهم إلا في المرائب التي حولوها إلى فصول للتعليم الخاص ليدرسوا نفس متعلميهم في التعليم العام، حيث المنافسة مع إخوانهم من تجار العلم، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين عن ضعف جودة التعليم؟
وعندما يختار بعض المفتشين السكن بعيدا عن مقرات عملهم في سُنة سيئة أضحت تميز هذه الفئة من الموظفين العموميين عن غيرهم، ليتفرغ أغلبهم لأعمال مدرة لدخل ثان، مثل السمسرة في السيارات والعقارات والفلاحة، مكتفين بزيارة لمدة ساعة من الزمن في السنة على الأكثر لمدرسين من النوعية سابقة الذكر، بدل البحث والتأطير التربويين المستمرين، وعندما يعمل البعض الآخر على ابتزاز المدرسين الراغبين في الاستفادة من الترقية بالاختيار، بدل أن يكون الإشراف التربوي الحريص الأول على قيمة الإنصاف عندما يقوم الأداء بحسب الكفاية والقدرة لا بحسب الانتماء النقابي أو الحزبي أو حتى العائلي، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين عن اختلالات التعليم؟
وعندما يحول بعض مديري الأكاديميات مقرات عملهم إلى قلاع محصنة على غرار قلاع روما القديمة، يحرسها عملاء حراسة خاصة، أوكلت لهم مهمتان، طرح الأسئلة العديدة والجواب الواحد «مكاينش»، بدل التواصل المستمر للمسؤول الجهوي مع الموظفين المشتكين من جور رؤسائهم أو بُعد أسرهم، عندما يعتمد البعض الآخر على سياسة الصناديق السوداء للتغطية على ضعف التسيير، بالاعتماد على الدروب المظلمة التي تميز الصفقات العمومية في هذا البلد، حتى إذا أزفت ساعة التغيير في الوزارة الوصية، فإنهم يعملون على عقد الندوات تلو الندوات تتناول أهمية والحاجة إلى اعتماد الحكامة الجيدة في التدبير، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين أيضا عن اختلالات التعليم؟
إن الحل الناجع ليس مراقبة المدرسين حول إضافة الساعات الخصوصية، بل في جملة قرارات تحتاج لشجاعة سواء على مستوى تكوينهم أو القضاء على الاكتظاظ. فلا معنى لأن يحرص الوزير على التكوين الجيد للمدرسين دون أن يعمل على تفعيل المرسوم المحدث للمراكز، وإخراجه القوانين التنظيمية اللازمة لتكون مراكز تكوين حقيقية وفعالة، ولا معنى للقضاء على الساعات الإضافية التي يلجأ إليها الآباء مكرهين وأبناؤهم يدرسون في أقسام مكتظة بما يفوق أربعين أو خمسين تلميذا، ولا معنى لكل هذا إذا كنا سنعتمد على منطق «الخريطة المدرسية» في النجاح، بشكل يسمح بنجاح تلاميذ بمعدل 20/5. ولا معنى لهذا والوزير ورئيس حكومته، يتعاملان بانتقائية واضحة مع المدارس الخصوصية.
وعندما نقول رئيس الحكومة، فليس للأمر علاقة بقصة إسقاط الطائرة في الحديقة، بل فشل رئيس الحكومة في فرض الاتفاقية التي وقعها مع أرباب التعليم الخصوصي، والذين يقودهم أحد أصدقائه المقربين في سلا، على تشغيل خريجي برنامج 10 آلاف مدرس، وهذا دليل على أننا بصدد وزارة وحكومة عاجزتين تماما، ما يطرح في نظرنا مشكلة تربوية عميقة هي: كيف لمدرس يعتبر «غير كفؤ» في التعليم العمومي أن يكون ضامنا للجودة في التعليم الخصوصي؟
فالمشكلة من الناحية التربوية خطيرة جدا، إذ أن أغلب مدرسي هذه المدارس الخاصة هم من التعليم العمومي، لكون المستثمر في هذا القطاع يتعامل بعقلية استثمارية خالصة، تماما كمن يستثمر في أي قطاع خدماتي. فعندما يطلب مجموعة من الآباء مدرسا معينا في تخصص معين، فإن على مدير هذه المدرسة الخاصة العمل على توفيره مهما كان الثمن، والأخطر هو أنه يتم التلاعب بأرقام الموارد البشرية المقدمة للوزارة الوصية. فبحسب القوانين الجاري بها العمل يجب التركيز على مدرسين لا ينتمون للقطاع العام، وإن فعلوا فيجب احترام عدد الساعات المخصصة لكل مدرس وهي في أغلبها ست ساعات أسبوعيا، لكن الذي يحصل شيء آخر تماما .
إننا نتكلم عن آلاف الساعات غير المرخص بها سنويا، حيث يلجأ بعض المستثمرين في هذا القطاع إلى تزوير الوثائق الرسمية المصرحة بعدد الساعات، كأن تجد مدرسا يدرس ست ساعات على الورق، وعشرين ساعة في «النوار»، أما كيف ذلك؟ فإن مديري المدارس الخصوصية يستقدمون عاطلين بعقد عمل يتضمن التدريس لـ24 ساعة مثلا في حين أنهم يدرسون 8 ساعات فقط، والباقي يعطى لمدرس عمومي، بل ومن المدارس من تضع فاتورة خاصة للدعم التربوي مع أنه من الناحية التربوية الخالصة فهو جزء من عملية التعليم ككل تماما كما الامتحانات. وفي المحصلة يتحول التعلم والتكوين من هاجس اجتماعي خاضع لاستراتيجية الدولة، إلى هاجس أسري خاضع لجشع المستثمرين في المعرفة. إذن أين النزاهة وتكافؤ الفرص آلسي بلمختار؟
وفي تقديرنا الشخصي، لا يقف الأمر عند العجز فقط، بل إن رئيس الحكومة متواطئ مع مصاصي الدماء في التعليم الخصوصي، ليس فقط لكونه هو أيضا صاحب مدارس خاصة تتواجد في شارع ابن تومرت بالرباط، وصديقه «السلاوي» الذي يضمن له أصوات سلا من أكبر المالكين للمدارس الخصوصية، بل لأن الأمر يتعلق بسياسة ممنهجة، ومن يعود لخطاب ألقاه بنكيران يدعو فيه الدولة إلى رفع يديها عن قطاعي الصحة والتعليم، سيستنتج أن عدم التحكم في التعليم الخصوصي ليس مرده فقط للعجز، بل وأساسا وجود سياسة حكومية واضحة لرمي تعليم أبناء المغاربة وصحتهم إلى «ذئاب القطاع الخاص».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق