الأحد، 30 نوفمبر 2014

الغبي

جلس يتحدث إلينا ، شاب في الثلاثين ،ضعيف البنية ،أصلع ،ذو ابتسامة واسعة و ماكرة ،ملابسه غير متناسقة لكنها نظيفة،تفوح منه رائحة كولونيا رخيصة .

بدأ يحكي مسيرته في الحياة بالأخص الدراسية منها ، يتكلم بسرعة و يسكت ليتابع في موضوع آخر ،نضطر لمقاطعته و تذكيره بالعودة ليسترسل الموضوع الرئيسي ،و ذلك لكي نستطيع الربط بين حلقات مسلسله و نفهم ما يريد قوله لنا بالضبط .

كان يكرر عبارة "لم أندم كثيرا" ثم يقول "لم يكن علي فعل ذلك "، قال أنه كان يحب شيئا واحدا لكنه فعل أشياء أخرى غير ذلك الشيء ،كانت السيدة التي بجانبي تضحك على طريقة كلامه و فحواه و لم أستغرب ضحكها بقدر ما أدهشتني سعادته المفرطة و هو يحكي عن إخفاقاته و كأنما هي نجاحات و انجازات عظيمة .

قال أنه كان ضحية نصب سواء أثناء دراسته أو بعدها ، استغله مسؤول كبير في عدة أعمال ،وعده بتشغيله في منصب محترم و ظل لسنوات يعمل معه دون مقابل و دون عقد ، يعمل في انتظار نيل المنصب ،قال أن الشخص استغل طاقاته و مواهبه و أنه لم يعوضه عن أي تعب ، لم تتمالك السيدة التي بجانبي نفسها لتصرخ في وجهه "أنت غبي" ، انتظرت منه أن يغضب أو يخرس ، لكنه أومأ برأسه موافقا و قال لها "فعلا أنا غبي و حمار أيضا".

تيقنت أن هذا الشخص ضعيف لدرجة حفاظه على نفس البرودة التي تظهر سلوكه السلبي ، حز في نفسي ما قاله عن نفسه منذ جلس ، كنت أحس أن من وراء تلك الابتسامة ألم عظيم و من وراء ذلك الجسد الهزيل معاناة كبيرة .

تطلعت إليه ، تأملته ،وددت لو كان أقل شجاعة في الحديث أو أنه قد استعمل كل هذه الشجاعة في غير الكلام ، لم أكن لا أنا و لا السيدة في حاجة لسماع كل ما قاله ، لم نكن بالشخصين المناسبين ليكشف همومه لهما ، لم يكن له أن يجعلنا نشعر بالشفقة ،و لم نكن لنقدم له بعد كل ما قاله غيرها مع بعض المتمنيات بالفرج .

كان يحسب أنه غادر مأساته ليتحدث عنها و كأنها تلوح من بعيد ، لم يكن يعرف أن كل الذين يتحدثون عن الماضي فإنهم مازالوا داخل زنزانته و أنهم لم يتحرروا من الأسر بعد .

غادرنا "الغبي" بنفس النشاط الذي ولج يحمله ، أخرج معه نفس الماضي ، سيفرغه مجددا في مكان آخر ،ثم يعود ليحمله في كل مكان ، تركني صامتة على غير عادتي و لم أكن لأشعر بالحاجة إلى الصمت في غير هكذا مواقف ...




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق