الصناديق السوداء بالمغرب المرئية وغير المرئية
أثارت الصناديق السوداء جدالا واسعا، لكنه أقل من ذلك السجال الذي أثاره فتح الله ولعلو- وزير المالية والخوصصة في حكومة التناوب التوافقي- عندما كشف أمام نواب الأمة، ولأول مرة، وجود ما كان يسمى بـ "السيكما"، وهي تسمية كانت مستعملة لتغطية صناديق سوداء تهم العديد من الوزارات والإدارات والمؤسسات العمومية. وكان أول تدخل له تحت قبة البرلمان أيام استوزاره لأول مرة.
"تقاتل" "المصباح" بقيادة عبد الإله بنكيران لدمج الحسابات الخاصة (الصناديق السوداء المرئية) في نطاق اختصاص وزارة المالية ومديرياتها. وكانت التي أفاضت الكأس ، البوليميك الذي رافق إزاحة الستار على المكافآت والعلاوات التي اغترفها وزير المالية السابق، صلاح الدين مزوار، من مال الشعب دون حسيب ولا رقيب. وزاد الطين بلة عندما تمّ الاهتمام بالشجرة وعدم اعتبار الغابة، حيث سعى القيّمون على الأمور لمحاسبة الموظفين الذين سربوا المعلومة وكشفوا الفضيحة عوض الاهتمام بلبّ الإشكالية وجوهرها، وهذا أمر لم يستسغه المغاربة، حيث فهمه الكثيرون كونه من دواعي التستر على الفساد والتلاعب بأموال الشعب، كيف لا ورئيس الحكومة اعتمد نهج "عفاعما سلف".
فهناك حسابات تتضمن مبالغ "طيطانيكية" ولا تخضع لأي مراقبة ويتمّ التصرف فيها دون حسيب ولا رقيب ولا تطالها الشفافية. وظلت الجهات التي تتحكم مباشرة في الصناديق السوداء مجهولة، هذا رغم أن الكثيرين دأبوا على المطالبة – إما جهرا أو من وراء الستار- بالكشف عنها.
إن اهتمامنا بإشكالية بالصناديق السوداء – كشكل من أشكال نهب وهدر المال -يتأسس، ليس على الرغبة في التشهير كما قد يتهمنا البعض بذلك، وإنما يتأسس على اعتبار أن نهب وهدر المال العام والسطو عليه وتهريبه هو، أولا وقبل كل شيء انتهاك لحقوق الإنسان، مما ترتب عنه من استشراء للفقر وانتشار البؤس الاجتماعي وحرمان أجيال من المغاربة من فرصة الاستفادة من نتائج التنمية، هذا علاوة على أن نهب وهدر المال العام هو من الجرائم الاقتصادية المخلة بتوازنات المجتمع، أدت ثمنها ولازالت تؤديه إلى حد الآن، شريحة واسعة من الشعب المغربي.
إن الصناديق السوداء، مازالت خارج الميزانية وبعيداً عن مراقبة البرلمان لأنها البقرة الحلوب التي اغتنى بأرقامها المجهولة العديد من الجبابرة من كبار الموظفين في الداخل والخارج على مدى عقود.
فأين صرفت الأموال الطائلة لتلك الصناديق؟ ومن تصرف فيها؟ وكيف صرفت؟ إنها أسئلة لازالت تنتظر الجواب .
في هذا الإطار نفتح من خلال ملف هذا العدد بعض جوانب إشكالية الصناديق السوداء ببلادنا.
ما هي الصناديق السوداء؟
إن الصناديق السوداء هي كل ميزانية لا تخضع - مثل كل الميزانيات المدرجة في إطار قانون المالية- للنقاش تحت قبة البرلمان، أو تلك التي لا يُعرف مصدرها ولا سبل التصرف فيها ولا من يستفيد منها. إنها ميزانيات خاصة جدا، منها ما يتعلق بمؤسسات السيادة ومخصصات صناديق بواسطتها يتم ضبط الوضع العام في المغرب، وهذه صناديق سوداء مرئية، وهناك صناديق أخرى غير مرئية وأخرى لا يعلم بوجودها إلا فئة معينة. كما هناك صناديق سوداء تمول من "إكراميات" بسيطة في بعض القطاعات، مثل جرت العادة أن يؤدي كل سائق طاكسي عن طيب خاطر مبلغا ماليا بسيطا يوميا عند كل مراقبة، وهي أموال لا يعرف طريق صرفها ومن يستفيد منها وبأي وجه يتم ذلك.
يدخل ضمن الصناديق السوداء المرئية كل تحصيل أو صرف أموال عمومية تقوم به إدارات أو مؤسسات عمومية خارج الميزانية العامة وبعيدا عن أي محاسبة ومساءلة وخارج دائرة الشفافية ولا تخضع لأي مراقبة.
ومن المصالح العمومية التي لها باع طويل في التصرف في صناديق سوداء صُرفت أموالها يمينا ويسارا – دون حسيب ولا رقيب – المديرية العامة للضرائب وإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة. وليس غريبا أن هذه الإدارات – عكسا لما هو قائم في مختلف الإدارات العمومية الأخرى- ودأبت على صرف علاوات ومكافآت سخية لأطرها ولموظفيها مرتين في السنة دون سواهم من موظفي الإدارة العمومية، وتقدر هذه الهبات بالنسبة للمديرين ورؤساء المصالح بالملايين، وكلها تغترف من أموال عمومية تُستخلص وتُصرف بعيدا عن أي مراقبة برلمانية ودون علم نواب الشعب، مما يضرب مبدأين أساسيين للمالية العمومية، الوحدة والعمومية، المنصوص عليهما في القانون الإطار للمالية العمومية. لهذا طلب نواب الأمة دمج كل تحصيل وصرف مال عمومي ضمن الميزانية العامة وإخضاعه لمراقبة البرلمان مع حلول سنة 2014.
عموما يكاد لا يعرف أي شيء عن حجم هذه الصناديق ولا عن كيفية صرف أموالها. وفي كل حالات "الصناديق السوداء"، لا تعرف مصادر تمويلها، فهي غير مبرمجة في الميزانية العامة للدولة التي يصادق عليها البرلمان، وتتفق كلها في أنصرفها لا يخضع لمراقبة أو محاسبة أية جهة كانت. وفي أغلب الحالات تصرف أموالها -عدا -ونقدا - وبكل العملات المتداولة.
إن طريقة تعامل الحكومات مع هذه الصناديق السوداء ظلت تشكل نغمة نشاز في مجال التدبير، علما أن مقتضيات الدستور والقانون التنظيمي للمالية والمعايير الدولية تفرض إخضاع هذه الصناديق وميزانيتها للمراقبة والمساءلة، حيث أنها بقيت خارج نطاق الشفافية.
ورغم كثرة اللغط عن النزاهة والشفافية والحكامة حاليا، مازالت تلك الصناديق خارج أي مراقبة ومحاسبة قانونية، ولا يعلم أحد قيمة المبالغ المالية المخصصة للكثير منها، وهذا وضع غير سليم – أراد من أراد وكره من كره- علما أن هذه الصناديق أقيمت لتظل بعيدة عن تصرف الحكومة، إنها تُدبّر في الظل.
صناديق سوداء ضمن الميزانية العامة
هناك وزارات تتحول أجزاء من ميزانيتها إلى صناديق سوداء، مما يُصعّب إخضاعها للحكامة والترشيد.
على سبيل المثال، في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هناك ميزانيات كبيرة تخصص لمؤسسات مستقلة عن وزارة الأوقاف، مثل رابطة علماء المغرب والسينغال والرابطة المحمدية للعلماء والأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية وفروعها، فضلا على الدعم المخصص للمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، رغم أن عمله لا يدخل في الشأن الديني، وكذا المبالغ المالية المهمة المرصودة لتنظيم الاحتفالات الدينية والجوائز والمكافآت و "برامج التوعية السمعية –البصرية و تنظيم دروس دينية وليالٍ وتأليف كتب والمساهمة في إعداد برامج تلفزيونية وإذاعية وتسجيل الدروس الحسنية وإعادة بثها و المنح المرصودة للزوايا والطرق الصوفية ، و ما يسمى "إعانة لفائدة الحسابات الخصوصية للأوقاف"، وهي عبارة عن صندوق أسود خاص بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لا تشمله مراقبة المحاكم المالية وأجهزة الرقابة، على غرار الحسابات الخصوصية الأخرى المدرجة ضمن مشروع قانون المالية، والبالغ عددها 79 حسابا، كما لا يمكن إرجاع الأموال الموجودة فيه إلى خزينة الدولة في حال عدم صرفها، كما هو حال باقي الحسابات الخصوصية.
وهناك بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، على المثال لا الحصر، الوكالة المغربية للتعاون الدولي، التي تعد بمثابة الصندوق الأسود لوزارة الخارجية وذراعها التنفيذي، الذي تدعم به لوبيات خارجية. كما هناك حسابات خاصة بالقروض الممنوحة لدول أجنبية، في إطار العلاقات الخارجية، ما يقرضه المغرب لهذه الدول، رغم أنه هو نفسه يقترض، ومن المفروض أن يكون خاضعا "للتذكرة"، ضمن قانون المالية، ولا تتم الإشارة إلى قدره. وهذا حال حسابات خصوصية أخرى تهم الانخراط في الهيآت الدولية، والذي رصدت له ميزانية قدرها 43 مليارا و559 مليون و584 ألف درهم في الميزانية الحالية.
وتتضمن ميزانية الدفاع، هي كذلك ركنها الخاص بالحسابات الخصوصية، وهي ميزانية مستقلة لا يمكن إخضاعها للرقابة المالية ولا يمكن استرجاعها، منها مصاريف عسكرية ضمنها حساب بقيمة 10 ملايير و200 مليون درهم لشراء وإصلاح معدات القوات المسلحة الملكية، وميزانية صندوق مشاركة القوات المسلحة الملكية في مأموريات السلام، إلى جانب صندوق الدعم لفائدة الدرك الملكي، بمبلغ 40 مليون درهم.
ولعل أضخم هذه الصناديق وأكبرها الصندوق الموجود بالوزرة الأولى وللوزير الأول الحق في صرف أية تعويضات منه ، تكفي تأشيرته، ومنه يمول سفر وفود رسمية في إطار مهام وطنية أو تغطية مصاريف ندوات أو لقاءات أو مؤتمرات،
أو صرف منح لجمعيات، أو دعم مشاريع. وكان مع مجيء حكومة جطو أصبح لهذا الحساب المفتوح ببنك المغرب، بطاقة رسمية بنكية تحمل اسم الوزير الأول ويمكن دفع كل الفواتير بها وبلا سقف.
الحسابات الخصوصية المدرجة ضمن قانون المالية
تظل الحسابات الخصوصية المدرجة ضمن قانون المالية خارج دائرة مراقبة المحاكم المالية وأجهزة الرقابة، ويبلغ عددها حاليا 77 حسابا، ولا يمكن إرجاع الأموال الموجودة فيه إلى خزينة الدولة في حال عدم صرفها، كما هي القاعدة بخصوص حسابات الميزانية العامة. وتبلغ نفقاتها خلال السنة الجارية (2013)، ما مجموعه 57,67 مليار درهم، وهو مبلغ يشكل نسبة 19,4 في المائة، مقارنة بالنفقات المبرمجة في ميزانية الدولة. في حين أن حجم رصيدها يناهز 100 مليار درهم، أى بمعدل ثلث الميزانية العامة للدولة. علما أن 10 في المائة من هذا الرصيد تقع مسؤولية التصرف فيه على رئيس الحكومة، والباقي يتم استغلاله من طرف وزارة الداخلية، إدارة الدفاع الوطني ووزارة الاقتصاد والمالية. و تستأثر وزارة الداخلية بأكثر من 46 في المائة من مجموع تلك الحسابات، ما يعني استفرادها بأكثر من 40 مليار درهم.
فهناك العديد من الحسابات المالية التي مازالت خارج المراقبة ولا تطالها أضواء الشفافية، ولعل أهمها تلك التي تتصرف في أموالها وزارة المالية ووزارة الداخلية، علما أن أغلب المؤسسات العمومية تتصرف في حسابات اجتمعت فيها كل مواصفات الصناديق السوداء. كما للخزينة العامة للمملكة صندوقها الأسود المشكلة من جملة من الحسابات، كحساب رقم 22 – 04 المتعلق مداخيل استخلاص المتأخرات والديون العمومية وحساب "الإيداعات الخاصة"، وهي حسابات ممولة من مداخيل خارجة عن دائرة الميزانية.
علما أن البعض يعتبر أن كل تلك الحسابات – الصناديق السوداء- لا تخرج كليا عن نطاق المراقبة، مادامت خاضعة للعمليات المحاسباتية العمومية ولمراقبة المجلس الأعلى بحسابات، إلا أنها تظل مراقبة بعدية، في حين أن المطلوب هو احترام مبدأ المالية العمومية القائلة بــ "وحدة الصندوق"، والذي لن يتحقق إلا بإدماجها في نطاق المالية العمومية. أي أن كل الأموال العمومية المستخلصة، وجب إيداعها في صندوق واحد قبل توزيعها أو تخصيصها لهذا القطاع أو ذاك. هذا أمر يتطلب استعداد عملي وتغيير جملة من الآليات والنصوص. لهذا تمّ اقتراح إدماج كل الحسابات ضمن الميزانية العامة مع حلول سنة 2015 عوض 2014 تجنبا لإحداث أي اضطراب من شأنه عرقلة عمل الإدارات العمومية.
كان عدد الحسابات الخصوصية 132 سابقا (2002) قبل إلغاء بعضها من قبيل "الصندوق الخاص لتمويل برامج اجتماعية واقتصادية". علما أن آخر الحسابات التي خلقها هي "الصندوق الخاص لدعم المحاكم" و"الصندوق الخاص لدعم مؤسسات السجون" و"صندوق التكافل العائلي" و"الصندوق الوطني لدعم الاستثمارات" و"صندوق دعم العمل الثقافي لفائدة المغاربة المقيمين بالخارج".
ويمكن تصنيف الحسابات الخاصة كالتالي: الحسابات المرصودة لأمور خصوصية وعددها 54، وحسابات القروض وعددها 10، وحسابات النفقات من المخصصات وعددها 6، وحسابات الانخراط في الهيئات الدولية وعددها 3 وحسابات التسبيقات (2) وحسابات العمليات النقدية (2).
ويقرّ طارق السباعي، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام، أن كل تلك الحسابات لا تخضع لمراقبة نواب الأمة، وهي ظاهرة تهم كل الوزارات، ولوزارة العدل صندوقها الأسود، إذ أن 40 بالمائة من مداخيل الغرامات لا تعرف طريقها إلى الميزانية العامة. ومن هذه الصناديق، حساب خاص بالكوارث الطبيعية وحساب من أجل تنمية الصيد البحري وآخر خاص بالتنمية الطاقية وحساب مرصود لتنمية الأقاليم الصحراوية. علما أنه لم يسبق أن تمّ نشر تقارير تبيّن وجوه صرف أموال هذه الحسابات. وإذا كان القانون يوكل مهمة مراقبة هذه الحسابات للخزينة العامة للمملكة والآمرين بصرفها والمسؤولين عن تدبير مجالات تدخلها، إضافة إلى الرقابة البعدية للمفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات، فإن هيئة حماية المال العام لاحظت أن الإدارة المكلفة بمراقبة الالتزامات بنفقات الدولة لا تراقب هذه الميزانيات، الشيء الذي يصعب مهمة التدقيق في طرق صرف تلك الاعتمادات، خصوصا وأنها مختومة بطابع "خاص".
ويرى نجيب أقصبي، الخبير والمحلل الاقتصادي، أن إدماج الحسابات الخاصة في الميزانية العامة من شأنه أن تكون انعكاساته إيجابية، إلا أن الأمر سيظل مرتبطا بالممارسة وكيفية ترجمة هذا التحول على أرض الواقع وباستعداد الإدارة القبلي لتقديم كل ما يكفي من معطيات لتكريس فعلي لهذا النهج. علما أنه في الأصل، يعتبر إحداث الحسابات الخاصة أمر استثنائي وليس عاديا، مادامت تضرب جملة من المبادئ والقواعد الأساسية التي تقوم عليها المالية العمومية، إذ أن هذه الحسابات تبرمج مسبقا مداخيل وتحدد تخصيصها ووجوه صرفها، وهذا أمر قد تكون له إيجابيات في بعض الحالات بعينها، إلا أنه وجب التعامل معه كاستثناء وليس كقاعدة، وذلك للاستفادة من المرونة التي يمنحها في التعامل مع المال العام.
وأكد حسن العرفي، أستاذ القانون العام و الخبير في تدبير المال العام، أن التصدي للصناديق أو الحسابات "السوداء" قرار سياسي بالدرجة الأولى. إن الإشكالية
مرتبطة جوهريا بإشكالية الإخلال بمبدأي الشفافية والمشروعية في تدبير الشأن العام، وبالأخص الاطمئنان على مصير المال العام ببلادنا، مع ما يتطلب ذلك من خلق أجواء الثقة المتبادلة بين الدولة والإدارة من جهة، والمواطنين وممثليهم من جهة أخرى. علما أن إثارة مطلب المساءلة حول حماية المال العام هي في صلب الصراع السياسي القائم بين الفرقاء، حيث ترى بعض الأطراف أن الفساد المالي والاجتماعي والاقتصادي يجد قوته في ضعف مؤسسات المراقبة، لاسيما البرلمان.
في حين أقرّ محمد حميدو، أستاذ الاقتصاد ، أن الصناديق التي تعمل في إطار الحسابات الخصوصية ، لم تؤد في غالبها الأدوار التي أنشأت من أجلها. إذ أنها كانت في غالب الأحيان يتم التعامل معها كأنها صناديق سوداء وفي بعض الحالات كانت مجالا خصبا لتحقيق توازنات سياسية واقتصادية معينة، وظلل صعبا بمكان محاسبة هاته الصناديق من الناحية المالية والحكامة، وكذا من الناحية السياسية.
وقد سبق لحسن الداودي، أن وصم كثرة الحسابات الخصوصية بــ "المصيبة"، وانتقدها ووصفها بـــ "آلية تهريب الاعتمادات المالية".
إن نهج تدبير الحسابات الخصوصية، هو الذي أدخلها في خانة الصناديق السوداء البعيدة عن دائرة أضواء الشفافية. ويُقال إن اختيار اعتماد هذا النهج في التدبير أملاه هاجس جعل مسطرة التسيير مرنة قصد بلوغ الغاية المتوخاة بسرعة. لكن في واقع الأمر، إن هكذا نهج تدبير جعل هذه الصناديق تعيش غموضا كثيفا لا يسمح بالمراقبة المعتادة، الشيء الذي لا يتماشى وقواعد التصرف في المال العام، والتي تستوجب الشفافية والمراقبة والتتبع والمحاسبة والمساءلة.
ولازال القيّمون على الأمور ينظرون في الحسابات الخصوصية على أنها حسابات إلى جانب الميزانية العامة ومرافق الدولة المسيرة بطريقة مستقلة، وهي تعتبر من الآليات الأساسية لتفعيل السياسات العامة للتنمية، وذلك لمساهمتها في تمويل المشاريع المندرجة في إطار تنفيذ عمليات الإصلاح والاستراتيجيات القطاعية.
"الصندوق المشترك" التابع لإدارة الجمارك
يعتبر الصندوق المشترك، التابع لإدارة الجمارك، نموذجا صارخا للصناديق السوداء ضمن الإدارة المغربية. ويمول من عائدات النزاعات الجمركية والمحجوزات بمقدار ملايير الدراهم، علما أن ميلاده كان في خدم حالة الاستثناء التي عاشتها بلادنا في منتصف ستينيات القرن الماضي. وكان ذلك بموجب قرار وزير المالية وقتئذ، المامون الطاهري، سنة 1966 بعد تعليق المؤسسات الدستورية في البلاد.
ويقرّ المدافعون عن استمرار وجود هذا الصندوق السوداء بأن دواعي إحداثه مازالت قائمة إلى حد الآن، ذلك أنه يستجيب حتى الساعة لمتطلبات حيوية تتعلق بطبيعة عمل أعوان الجمارك والمتعاونين معهم وكل المتدخلين في التصدي لعمليات التهريب ووجوب تحديد مخصصات مالية لمحاربة هذه الآفة. ويضيفون
أن وجود هذا الصندوق تحت إمرة إدارة الجمارك لا يشذ عما هو معمول به لدى كل إدارات الجمارك عبر العالم والتي تتوفر بدورها على صناديق خاصة مشابهة تخضع لنفس القواعد تقريبا المعمول بها عندنا، سيما وأن التطور الذي عرفته عمليات الغش والتهريب واحترافية المتعاطين لها وتطور وسائلهم يفرض استمرارية هذا الصندوق، بغية دعم شبكة المخبرين الطين تساعدون إدارة الجمارك في التصدي للتهريب.
لكن هذا الصندوق يلفه الكثير من الغموض ولا يعلم أحد حجم المبالغ المالية التي تضخ فيه وأوجه صرفها، وتستفيد منه جهات خارج دائرة ومنطق الشفافية الذي من المفروض أن يحكم صرف المال العمومي. علما أن الصندوق لا يخضع لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات أو مراقبة المفتشية العامة لوزارة المالية.
ويستفيد الصندوق المشترك بنسبة 10 في المائة من عائدات المنازعات الجمركية والمحجوزات ، فيما تصل نسبة الخزينة العامة من هذه العائدات إلى 54 في المائة، و15 في المائة للجمعيات والأعمال الاجتماعية بدون تحديد هوية هذه الجمعيات وأصحابها، و10 في المائة إلى المخبر الذي بلغ أو كشف عن وجود حشيش أو عملية تهريب أموال أو سلع، وهذه النسبة يتسلمها سرا ويدا بيد من رئيس قسم المنازعات بإدارة الجمارك حتى لا يكتشف أمره. وتتسع دائرة الغموض حول هذا الصندوق الأسود عندما يتحدث القرار الوزاري أيضا عن 5 في المائة من العائدات تخصص لنفقات التسيير الخاصة بإدارة الجمارك ويستفيد منها الرئيس بالإدارة والمسؤول عن المخازن. كما يصرف جزء من مبالغ الصندوق المشترك كمكافآت لأعوان الجمارك الذين ينجزون أعمالا يظهرون فيها التضحية والشجاعة، تحفيزا لهم على البذل والعطاء وعرفانا بتضحيتهم.
عندما كان المكتب الشريف للفوسفاط صندوقا أسودا بامتياز
في السابق كان اسم المكتب الشريف للفوسفاط حاضرا بقوة، بشكل أو بآخر، في مختلف النقاشات المهتمة بنهب وهدر المال العام، علما أن الجميع أقر الآن بأن بلادنا عانت على امتداد أربعة عقود من نهب ممنهج للثروات الوطنية في ظل سيادة غياب المراقبة والإفلات من المساءلة. وقد مست هذه الظاهرة مختلف المؤسسات العمومية وشبه العمومية، ومجموعة المكتب الشريف للفوسفاط لم تكن خارج الدائرة وإنما في محورها، إذ شكلت صندوقا أسودا بامتياز تصرف فيه أكثر من، كل بطريقته الخاصة. والملفت للنظر هو أنه لم يسبق الاهتمام الكافي بالكشف عما طالها من نهب وهدر للمال العام، وهي المؤسسة العمومية المتحكمة في أهم ثروة وطنية، التي عولت عليها البلاد لإرساء أسس التنمية منذ الحصول على الاستقلال في منتصف خمسينيات القرن الماضي. واعتبارا لكون مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط ظلت تضطلع بمهمة تدبير أهم ثروة طبيعية وطنية في ملك الشعب تقوم بإدارتها الدولة، فإنه من حق المواطن أن يتساءل عن مآل الأموال المجنية منها ووجوه استعمالها وطرق صرفها.
إن المكتب الشريف للفوسفاط من المؤسسات العمومية التي تعرضت، منذ الاستقلال، إلى نهب وهدر المال العام بالرغم من أننا لم نسمع عن مساءلة أي مسؤول سابق بهذا الخصوص. لقد تعاقب على هذا المكتب أشخاص مارسوا الرشوة والمحسوبية واختلاس ونهب المال العام، وبذلك اقترفوا جرائم اقتصادية في حق الشعب المغربي باعتبار أن الأمر يهم أهم ثروة وطنية، الفوسفاط، فقد ظلوا يعاينون البلاد، وهي في أدنى مراتب سلم التنمية وفي المواقع المتقدمة بخصوص استشراء الفساد وتغلغل الرشوة وانتشار الفقر والتهميش والإقصاء. وبعض هؤلاء، بالأمس، عوضوا مفهوم التنمية الاقتصادية ومؤشراتها بتنمية أرصدتهم البنكية وتنمية مصالحهم بالداخل والخارج، ولم تحرك أي جهة ساكنا. هؤلاء وغيرهم اعتبروا، على امتداد سنين طويلة، المكتب الشريف للفوسفاط بمثابة صندوق أسود خاص بهم يتصرفون فيه كما يحلو لهم، كالمالك في ملكه دون حسيب ولا رقيب.
نعم، سيكون من الصعب التوصل إلى معطيات دقيقة، نظرا لأن عمليات النهب والهدر بالمكتب الشريف للفوسفاط تمت في ظروف غاب فيها أي نوع من المراقبة، وحتى لو تم الوقوف على بعضها سيبقى من الصعب بمكان تقدير حجمها ، ما دام أن هذه المؤسسة كانت صندوقا أسودا بعيدا عن الأضواء، وذلك رغم أنها من المؤسسات التي دأبت على نشر حساباتها سنويا. وحسب أحد المصادر المطلعة، منذ بداية سنة 2006، علم القصر الملكي بالوضعية التي تعيشها مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، وفي فبراير 2006، بدا الغضب جليا على الملك محمد السادس، وفي نفس الشهر تم تعويض مراد الشريف بمصطفى التراب الذي نودي عليه من واشنطن، حيث كان يشغل منصبا رفيعا بالبنك الدولي.
وقد سبق لأكثر من مصدر أن أكد نهب مبالغ هامة وتبذير أموال طائلة في الحفلات والأسفار والمناسبات والخدمات الصورية، ناهيك عن الأجور والتعويضات الخيالية التي يتوصل بها جملة من المسؤولين بالمكتب والتي تتعدى في الحد الأدنى 30 مليون سنتيما وقد يصل إحداها إلى 100 مليون سنتيما، كما سبق أن تم تقديم رقم 10 مليار درهم من طرف أكثر من جهة نهبت في فترة تاريخية معينة، علما أن مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط تتصرف في ميزانية ضخمة، لا مثيل لها في أي مؤسسة عمومية أخرى، اعتبارا لاحتكار مكتبها الشريف تدبير أهم ثروة وطنية.
لقد استفاد من نهب وهدر المال الذي طال المكتب، ثلة من الأشخاص الذين كانوا يستفيدون أصلا في كنفه، من أجور "طيطانيكية" قدرت بالملايين ومن عدة امتيازات أخرى، كامتياز "البرستيج" الذي كان يكلف مالية المكتب أموالا طائلة. وساد هذا الوضع واستشرى في ظل غياب المراقبة، القبلية منها والبعدية، علما أن المكتب مؤسسة عمومية من المفروض أن تكون تحت مراقبة الدولة.
ومن المفارقات الغريبة، أنه بموازاة مع نهب وهدر المال العام الذي طال مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، فإنها تقوم بمبادرات اجتماعية، منها ما وضعها القائمون عليها تحت عنوان: "سياسة المواطنة المنتهجة من طرف المكتب"؛ ملايير نهبت وملايير أهدرت سنويا، والمكتب يبادر بتوزيع بعض المواد الغذائية على أسر معوزة في بعض المناطق المجاورة للمدن الفوسفاطية، وتتكون هذه المواد من الدقيق والسكر والزيت والشاي، وبعدها تنشر بلاغات تختتم مرارا بعبارة: "وقد خلفت هذه الإعانات كسابقاتها ارتياحا وأثرا طيبا في نفوس المستفيدين وكافة السكان بشكل عام".
ففي غضون شهر نوفمبر 2006، أكد أكثر من مصدر أنه تم تكليف شركات أجنبية للقيام بتدقيق حسابات المجموعة، وقيل آنذاك إن انجليزيين وفرنسيين تكلفوا بهذه المهمة، ومرد ذلك أنه تم كشف ثقب أسود نزفت منه الملايير على امتداد سنوات.
ومن النقط السوداء التي بدأت تتناسل بخصوصها عدة تساؤلات في هذا المضمار:
- مكتب باريس.
- الصفقات المرتبطة ببيع الفوسفاط الخام والحامض الفوسفوري.
- مصالح المشتريات الدولية والوطنية والمحلية.
- الصفقات العالمية للصيانة وأشغال الصيانة الوطنية والمحلية.
- عقود الخدمات المقدمة للمكتب من طرف الأوراش المحلية.
- المصالح الاجتماعية على الصعيد المركزي والجهوي والمحلي.
إن بعض العاملين بالمكتب سابقا، خلقوا شركات بالخارج، الجزء الكبير من رقم معاملاتها تحققه من خلال تعاملاتها مع المكتب، علما أن هذا الارتباط تقوى منذ عهد كريم العمراني. فكيف كان يتم نهب الأموال؟
من الأساليب المتبعة والتي ساهمت في التغطية عن نهب وهدر المال العام بالمكتب، إبرام صفقات على هامش القانون، مع شركات بعينها ظلت مرتبطة بالمكتب منذ سنوات. وكذلك التعاقد الضمني بالتراضي بخصوص صفقات تهم ملايير الدراهم على امتداد أكثر من 10 سنوات، وتفويت الأشغال عن طريق التراضي أيضا عوض اعتماد المسطرة المتعارف عليها. هذه الأساليب وغيرها أدت إلى إثراء جملة من الأشخاص بطريقة غير مشروعة، وأصبحوا الآن من ذوي الثروات العالمية وأصحاب شركات، مقرها بالخارج، وظلوا على علاقة بالمكتب الشريف للفوسفاط "ولي نعمتهم"، سواء في مجال الوساطة في تسويق الفوسفاط والمنتوجات المصدرة أو في مجال الصيانة والتزويد بالمعدات والآليات.
ومن "المناطق السوداء" التي تناسلت في إطارها عدة تساؤلات، المصالح الاجتماعية للمكتب التي أشار الكثيرون إلى تداعيات التلاعب باعتماداتها الاجتماعية والرياضية والثقافية.
وقد شكل مكتب باريس التابع للمكتب الشريف للفوسفاط صندوقا أسودا مستقلا بذاته. وقد لف غموض كثيف حساباته على امتداد سنوات طويلة الشيء الذي ساهم في تغليف التعاطي للرشوة والتواطؤ وهدر المال العام بخصوص بيع الفوسفاط بأثمنة بخسة لبعض الشركات بعينها، تديرها عائلة كان أحد أفرادها يعمل سابقا بالمكتب المذكور. وصرح لنا أحد العارفين بخبايا أمور المكتب الشريف للفوسفاط، أنه بالأمس، وعلى امتداد سنوات طويلة، ظلت الإدارة المركزية للمكتب كواجهة، في حين كان مكتب باريس التابع له يتحكم في الأمور، آنذاك كان على رأسه أحد الفرنسيين يدعى "دافوفيل"، وكان قائما على أموره المالية أحد اليهود، وكانت تربطه علاقة متينة مع جملة من الشركات، من ضمنها الشركة الألمانية "كروب" الدائعة الصيت؛ و كان مكتب باريس يتحكم عن قرب في مختلف آليات التسويق والدواليب المالية مع زبنائه بفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
ومن الأمور التي إثارت جملة من التساؤلات، الصناديق السوداء التي ظل يتصرف فيها مكتب باريس والتي همت مبالغ مالية لا يعلم قدرها إلا الله، غير مثبتة في الوثائق المحاسباتية المتعارف عليها، علما أن مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط تعتمد أحدث المناهج والتقنيات في مجال الحسابات المالية والشؤون المحاسباتية وتتوفر على أحسن الكوادر المغربية في هذا الاختصاص.
الصندوق الأسود للمخابرات المغربية
يعتبر "الكاب 1" منبع كل الأجهزة المخابراتية المغربية. فمنه انبثقت "الديسطي" و "لادجيد"، وكان الجنرال محمد أوفقير أو رئيس "للكاب 1" الذي تأسس تحت إشراف المخابرات الفرنسية، لكن سرعان ما تكلفت المخابرات الأمريكية والموساد بإعادة هيكلته.
في البداية كان تمويل "الكاب 1" يتم بتخصيص ميزانية توضع في صندوقه الأسود يتصرف فيها الجنرال أوفقير بدون حسيب ولا رقيب (وكان قد كلف أحمد الدليمي بتدبيره)، وموازاة مع ذلك كان "الكاب 1" يستحوذ على 75 في المائة من مداخيل دور الدعارة التي كانت دائمة الاشتغال بفعل حمايتها من طرف عناصر الجهاز، ولعدم إثارة الشبهة كانت إدارة تلك الدور والفنادق تعهد لبعض الفرنسيين، بعضهم شاركوا بامتياز في عملية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة، وظلت أموال دور الدعارة تتهاطل على صندوق "الكاب 1" فيما بين 1962 و 1974، يتصرف فيها القائمون على الجهاز بدون حسيب ولا رقيب.
عموما ظلت الأجهزة الأمنية والمخابراتية تتوفر على صناديق سوداء لا تخضع لأي مراقبة تساعدها على القيام بالمهام السرية المنوطة بها والتي غالبا ما تحتاج لتمويل مهم وفوري لا يتماشى مع قواعد المراقبة المالية المعتادة.
وقد سبق وأن نشرت عدة صحف عربية أن المغرب قرر إقامة أكبر شبكة مخابرات في المغرب العربي ستكون أقوى من مخابرات تونس، والجزائر، وذلك اعتبارا للتطورات الخطيرة و مضاعفاتها الاستراتيجية و المستقبلية على المنطقة.
وتحدثت عن التعاون بين مخابرات المغرب (مديرية الدراسات وحفظ المستندات)، المعروفة باسم (لادجيد)، والخليج، الذي سيوفر ميزانية لمخابرات المغرب ستصل إلى مليار دولار سنويا (ما يناهز 8 مليار درهم).
الصناديق السرية غير المرئية تصرف فيها إدريس البصري
من الصناديق السوداء السرية تلك الصناديق التي ظلت الأجهزة الأمنية السرية تتوفر عليها.
فلا يخفى على أحد الآن أن وزارة الداخلية ومديرية مراقبة التراب الوطني (الديسطي) كانتا تتوفران على صندوق أسود، وكان إدريس البصري المسؤول المباشر عليهما فيما بين سنة 1973 و سنة 1999 تاريخ خلعه وإعفائه نهائيا من مهامه .وظل يتصرف فيهما دون حسيب ولا رقيب.
هذا إضافة إلى الصندوق الخاص بملف الصحراء المسترجعة الذي كان يتصرف فيه كذلك تصرف المالك في ملكه الخاص كيفما كان يحلو له.
كما أدلت أكثر من جهة أن إدريس البصري كان وراء جملة من التلاعبات بخصوص الاكتتاب لبناء مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء والتي تم التصرف فيها كصندوق أسود بعيدا عن أية مراقبة.
منقول عن : الحوار المتمدن .
أثارت الصناديق السوداء جدالا واسعا، لكنه أقل من ذلك السجال الذي أثاره فتح الله ولعلو- وزير المالية والخوصصة في حكومة التناوب التوافقي- عندما كشف أمام نواب الأمة، ولأول مرة، وجود ما كان يسمى بـ "السيكما"، وهي تسمية كانت مستعملة لتغطية صناديق سوداء تهم العديد من الوزارات والإدارات والمؤسسات العمومية. وكان أول تدخل له تحت قبة البرلمان أيام استوزاره لأول مرة.
"تقاتل" "المصباح" بقيادة عبد الإله بنكيران لدمج الحسابات الخاصة (الصناديق السوداء المرئية) في نطاق اختصاص وزارة المالية ومديرياتها. وكانت التي أفاضت الكأس ، البوليميك الذي رافق إزاحة الستار على المكافآت والعلاوات التي اغترفها وزير المالية السابق، صلاح الدين مزوار، من مال الشعب دون حسيب ولا رقيب. وزاد الطين بلة عندما تمّ الاهتمام بالشجرة وعدم اعتبار الغابة، حيث سعى القيّمون على الأمور لمحاسبة الموظفين الذين سربوا المعلومة وكشفوا الفضيحة عوض الاهتمام بلبّ الإشكالية وجوهرها، وهذا أمر لم يستسغه المغاربة، حيث فهمه الكثيرون كونه من دواعي التستر على الفساد والتلاعب بأموال الشعب، كيف لا ورئيس الحكومة اعتمد نهج "عفاعما سلف".
فهناك حسابات تتضمن مبالغ "طيطانيكية" ولا تخضع لأي مراقبة ويتمّ التصرف فيها دون حسيب ولا رقيب ولا تطالها الشفافية. وظلت الجهات التي تتحكم مباشرة في الصناديق السوداء مجهولة، هذا رغم أن الكثيرين دأبوا على المطالبة – إما جهرا أو من وراء الستار- بالكشف عنها.
إن اهتمامنا بإشكالية بالصناديق السوداء – كشكل من أشكال نهب وهدر المال -يتأسس، ليس على الرغبة في التشهير كما قد يتهمنا البعض بذلك، وإنما يتأسس على اعتبار أن نهب وهدر المال العام والسطو عليه وتهريبه هو، أولا وقبل كل شيء انتهاك لحقوق الإنسان، مما ترتب عنه من استشراء للفقر وانتشار البؤس الاجتماعي وحرمان أجيال من المغاربة من فرصة الاستفادة من نتائج التنمية، هذا علاوة على أن نهب وهدر المال العام هو من الجرائم الاقتصادية المخلة بتوازنات المجتمع، أدت ثمنها ولازالت تؤديه إلى حد الآن، شريحة واسعة من الشعب المغربي.
إن الصناديق السوداء، مازالت خارج الميزانية وبعيداً عن مراقبة البرلمان لأنها البقرة الحلوب التي اغتنى بأرقامها المجهولة العديد من الجبابرة من كبار الموظفين في الداخل والخارج على مدى عقود.
فأين صرفت الأموال الطائلة لتلك الصناديق؟ ومن تصرف فيها؟ وكيف صرفت؟ إنها أسئلة لازالت تنتظر الجواب .
في هذا الإطار نفتح من خلال ملف هذا العدد بعض جوانب إشكالية الصناديق السوداء ببلادنا.
ما هي الصناديق السوداء؟
إن الصناديق السوداء هي كل ميزانية لا تخضع - مثل كل الميزانيات المدرجة في إطار قانون المالية- للنقاش تحت قبة البرلمان، أو تلك التي لا يُعرف مصدرها ولا سبل التصرف فيها ولا من يستفيد منها. إنها ميزانيات خاصة جدا، منها ما يتعلق بمؤسسات السيادة ومخصصات صناديق بواسطتها يتم ضبط الوضع العام في المغرب، وهذه صناديق سوداء مرئية، وهناك صناديق أخرى غير مرئية وأخرى لا يعلم بوجودها إلا فئة معينة. كما هناك صناديق سوداء تمول من "إكراميات" بسيطة في بعض القطاعات، مثل جرت العادة أن يؤدي كل سائق طاكسي عن طيب خاطر مبلغا ماليا بسيطا يوميا عند كل مراقبة، وهي أموال لا يعرف طريق صرفها ومن يستفيد منها وبأي وجه يتم ذلك.
يدخل ضمن الصناديق السوداء المرئية كل تحصيل أو صرف أموال عمومية تقوم به إدارات أو مؤسسات عمومية خارج الميزانية العامة وبعيدا عن أي محاسبة ومساءلة وخارج دائرة الشفافية ولا تخضع لأي مراقبة.
ومن المصالح العمومية التي لها باع طويل في التصرف في صناديق سوداء صُرفت أموالها يمينا ويسارا – دون حسيب ولا رقيب – المديرية العامة للضرائب وإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة. وليس غريبا أن هذه الإدارات – عكسا لما هو قائم في مختلف الإدارات العمومية الأخرى- ودأبت على صرف علاوات ومكافآت سخية لأطرها ولموظفيها مرتين في السنة دون سواهم من موظفي الإدارة العمومية، وتقدر هذه الهبات بالنسبة للمديرين ورؤساء المصالح بالملايين، وكلها تغترف من أموال عمومية تُستخلص وتُصرف بعيدا عن أي مراقبة برلمانية ودون علم نواب الشعب، مما يضرب مبدأين أساسيين للمالية العمومية، الوحدة والعمومية، المنصوص عليهما في القانون الإطار للمالية العمومية. لهذا طلب نواب الأمة دمج كل تحصيل وصرف مال عمومي ضمن الميزانية العامة وإخضاعه لمراقبة البرلمان مع حلول سنة 2014.
عموما يكاد لا يعرف أي شيء عن حجم هذه الصناديق ولا عن كيفية صرف أموالها. وفي كل حالات "الصناديق السوداء"، لا تعرف مصادر تمويلها، فهي غير مبرمجة في الميزانية العامة للدولة التي يصادق عليها البرلمان، وتتفق كلها في أنصرفها لا يخضع لمراقبة أو محاسبة أية جهة كانت. وفي أغلب الحالات تصرف أموالها -عدا -ونقدا - وبكل العملات المتداولة.
إن طريقة تعامل الحكومات مع هذه الصناديق السوداء ظلت تشكل نغمة نشاز في مجال التدبير، علما أن مقتضيات الدستور والقانون التنظيمي للمالية والمعايير الدولية تفرض إخضاع هذه الصناديق وميزانيتها للمراقبة والمساءلة، حيث أنها بقيت خارج نطاق الشفافية.
ورغم كثرة اللغط عن النزاهة والشفافية والحكامة حاليا، مازالت تلك الصناديق خارج أي مراقبة ومحاسبة قانونية، ولا يعلم أحد قيمة المبالغ المالية المخصصة للكثير منها، وهذا وضع غير سليم – أراد من أراد وكره من كره- علما أن هذه الصناديق أقيمت لتظل بعيدة عن تصرف الحكومة، إنها تُدبّر في الظل.
صناديق سوداء ضمن الميزانية العامة
هناك وزارات تتحول أجزاء من ميزانيتها إلى صناديق سوداء، مما يُصعّب إخضاعها للحكامة والترشيد.
على سبيل المثال، في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هناك ميزانيات كبيرة تخصص لمؤسسات مستقلة عن وزارة الأوقاف، مثل رابطة علماء المغرب والسينغال والرابطة المحمدية للعلماء والأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية وفروعها، فضلا على الدعم المخصص للمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، رغم أن عمله لا يدخل في الشأن الديني، وكذا المبالغ المالية المهمة المرصودة لتنظيم الاحتفالات الدينية والجوائز والمكافآت و "برامج التوعية السمعية –البصرية و تنظيم دروس دينية وليالٍ وتأليف كتب والمساهمة في إعداد برامج تلفزيونية وإذاعية وتسجيل الدروس الحسنية وإعادة بثها و المنح المرصودة للزوايا والطرق الصوفية ، و ما يسمى "إعانة لفائدة الحسابات الخصوصية للأوقاف"، وهي عبارة عن صندوق أسود خاص بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لا تشمله مراقبة المحاكم المالية وأجهزة الرقابة، على غرار الحسابات الخصوصية الأخرى المدرجة ضمن مشروع قانون المالية، والبالغ عددها 79 حسابا، كما لا يمكن إرجاع الأموال الموجودة فيه إلى خزينة الدولة في حال عدم صرفها، كما هو حال باقي الحسابات الخصوصية.
وهناك بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، على المثال لا الحصر، الوكالة المغربية للتعاون الدولي، التي تعد بمثابة الصندوق الأسود لوزارة الخارجية وذراعها التنفيذي، الذي تدعم به لوبيات خارجية. كما هناك حسابات خاصة بالقروض الممنوحة لدول أجنبية، في إطار العلاقات الخارجية، ما يقرضه المغرب لهذه الدول، رغم أنه هو نفسه يقترض، ومن المفروض أن يكون خاضعا "للتذكرة"، ضمن قانون المالية، ولا تتم الإشارة إلى قدره. وهذا حال حسابات خصوصية أخرى تهم الانخراط في الهيآت الدولية، والذي رصدت له ميزانية قدرها 43 مليارا و559 مليون و584 ألف درهم في الميزانية الحالية.
وتتضمن ميزانية الدفاع، هي كذلك ركنها الخاص بالحسابات الخصوصية، وهي ميزانية مستقلة لا يمكن إخضاعها للرقابة المالية ولا يمكن استرجاعها، منها مصاريف عسكرية ضمنها حساب بقيمة 10 ملايير و200 مليون درهم لشراء وإصلاح معدات القوات المسلحة الملكية، وميزانية صندوق مشاركة القوات المسلحة الملكية في مأموريات السلام، إلى جانب صندوق الدعم لفائدة الدرك الملكي، بمبلغ 40 مليون درهم.
ولعل أضخم هذه الصناديق وأكبرها الصندوق الموجود بالوزرة الأولى وللوزير الأول الحق في صرف أية تعويضات منه ، تكفي تأشيرته، ومنه يمول سفر وفود رسمية في إطار مهام وطنية أو تغطية مصاريف ندوات أو لقاءات أو مؤتمرات،
أو صرف منح لجمعيات، أو دعم مشاريع. وكان مع مجيء حكومة جطو أصبح لهذا الحساب المفتوح ببنك المغرب، بطاقة رسمية بنكية تحمل اسم الوزير الأول ويمكن دفع كل الفواتير بها وبلا سقف.
الحسابات الخصوصية المدرجة ضمن قانون المالية
تظل الحسابات الخصوصية المدرجة ضمن قانون المالية خارج دائرة مراقبة المحاكم المالية وأجهزة الرقابة، ويبلغ عددها حاليا 77 حسابا، ولا يمكن إرجاع الأموال الموجودة فيه إلى خزينة الدولة في حال عدم صرفها، كما هي القاعدة بخصوص حسابات الميزانية العامة. وتبلغ نفقاتها خلال السنة الجارية (2013)، ما مجموعه 57,67 مليار درهم، وهو مبلغ يشكل نسبة 19,4 في المائة، مقارنة بالنفقات المبرمجة في ميزانية الدولة. في حين أن حجم رصيدها يناهز 100 مليار درهم، أى بمعدل ثلث الميزانية العامة للدولة. علما أن 10 في المائة من هذا الرصيد تقع مسؤولية التصرف فيه على رئيس الحكومة، والباقي يتم استغلاله من طرف وزارة الداخلية، إدارة الدفاع الوطني ووزارة الاقتصاد والمالية. و تستأثر وزارة الداخلية بأكثر من 46 في المائة من مجموع تلك الحسابات، ما يعني استفرادها بأكثر من 40 مليار درهم.
فهناك العديد من الحسابات المالية التي مازالت خارج المراقبة ولا تطالها أضواء الشفافية، ولعل أهمها تلك التي تتصرف في أموالها وزارة المالية ووزارة الداخلية، علما أن أغلب المؤسسات العمومية تتصرف في حسابات اجتمعت فيها كل مواصفات الصناديق السوداء. كما للخزينة العامة للمملكة صندوقها الأسود المشكلة من جملة من الحسابات، كحساب رقم 22 – 04 المتعلق مداخيل استخلاص المتأخرات والديون العمومية وحساب "الإيداعات الخاصة"، وهي حسابات ممولة من مداخيل خارجة عن دائرة الميزانية.
علما أن البعض يعتبر أن كل تلك الحسابات – الصناديق السوداء- لا تخرج كليا عن نطاق المراقبة، مادامت خاضعة للعمليات المحاسباتية العمومية ولمراقبة المجلس الأعلى بحسابات، إلا أنها تظل مراقبة بعدية، في حين أن المطلوب هو احترام مبدأ المالية العمومية القائلة بــ "وحدة الصندوق"، والذي لن يتحقق إلا بإدماجها في نطاق المالية العمومية. أي أن كل الأموال العمومية المستخلصة، وجب إيداعها في صندوق واحد قبل توزيعها أو تخصيصها لهذا القطاع أو ذاك. هذا أمر يتطلب استعداد عملي وتغيير جملة من الآليات والنصوص. لهذا تمّ اقتراح إدماج كل الحسابات ضمن الميزانية العامة مع حلول سنة 2015 عوض 2014 تجنبا لإحداث أي اضطراب من شأنه عرقلة عمل الإدارات العمومية.
كان عدد الحسابات الخصوصية 132 سابقا (2002) قبل إلغاء بعضها من قبيل "الصندوق الخاص لتمويل برامج اجتماعية واقتصادية". علما أن آخر الحسابات التي خلقها هي "الصندوق الخاص لدعم المحاكم" و"الصندوق الخاص لدعم مؤسسات السجون" و"صندوق التكافل العائلي" و"الصندوق الوطني لدعم الاستثمارات" و"صندوق دعم العمل الثقافي لفائدة المغاربة المقيمين بالخارج".
ويمكن تصنيف الحسابات الخاصة كالتالي: الحسابات المرصودة لأمور خصوصية وعددها 54، وحسابات القروض وعددها 10، وحسابات النفقات من المخصصات وعددها 6، وحسابات الانخراط في الهيئات الدولية وعددها 3 وحسابات التسبيقات (2) وحسابات العمليات النقدية (2).
ويقرّ طارق السباعي، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام، أن كل تلك الحسابات لا تخضع لمراقبة نواب الأمة، وهي ظاهرة تهم كل الوزارات، ولوزارة العدل صندوقها الأسود، إذ أن 40 بالمائة من مداخيل الغرامات لا تعرف طريقها إلى الميزانية العامة. ومن هذه الصناديق، حساب خاص بالكوارث الطبيعية وحساب من أجل تنمية الصيد البحري وآخر خاص بالتنمية الطاقية وحساب مرصود لتنمية الأقاليم الصحراوية. علما أنه لم يسبق أن تمّ نشر تقارير تبيّن وجوه صرف أموال هذه الحسابات. وإذا كان القانون يوكل مهمة مراقبة هذه الحسابات للخزينة العامة للمملكة والآمرين بصرفها والمسؤولين عن تدبير مجالات تدخلها، إضافة إلى الرقابة البعدية للمفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات، فإن هيئة حماية المال العام لاحظت أن الإدارة المكلفة بمراقبة الالتزامات بنفقات الدولة لا تراقب هذه الميزانيات، الشيء الذي يصعب مهمة التدقيق في طرق صرف تلك الاعتمادات، خصوصا وأنها مختومة بطابع "خاص".
ويرى نجيب أقصبي، الخبير والمحلل الاقتصادي، أن إدماج الحسابات الخاصة في الميزانية العامة من شأنه أن تكون انعكاساته إيجابية، إلا أن الأمر سيظل مرتبطا بالممارسة وكيفية ترجمة هذا التحول على أرض الواقع وباستعداد الإدارة القبلي لتقديم كل ما يكفي من معطيات لتكريس فعلي لهذا النهج. علما أنه في الأصل، يعتبر إحداث الحسابات الخاصة أمر استثنائي وليس عاديا، مادامت تضرب جملة من المبادئ والقواعد الأساسية التي تقوم عليها المالية العمومية، إذ أن هذه الحسابات تبرمج مسبقا مداخيل وتحدد تخصيصها ووجوه صرفها، وهذا أمر قد تكون له إيجابيات في بعض الحالات بعينها، إلا أنه وجب التعامل معه كاستثناء وليس كقاعدة، وذلك للاستفادة من المرونة التي يمنحها في التعامل مع المال العام.
وأكد حسن العرفي، أستاذ القانون العام و الخبير في تدبير المال العام، أن التصدي للصناديق أو الحسابات "السوداء" قرار سياسي بالدرجة الأولى. إن الإشكالية
مرتبطة جوهريا بإشكالية الإخلال بمبدأي الشفافية والمشروعية في تدبير الشأن العام، وبالأخص الاطمئنان على مصير المال العام ببلادنا، مع ما يتطلب ذلك من خلق أجواء الثقة المتبادلة بين الدولة والإدارة من جهة، والمواطنين وممثليهم من جهة أخرى. علما أن إثارة مطلب المساءلة حول حماية المال العام هي في صلب الصراع السياسي القائم بين الفرقاء، حيث ترى بعض الأطراف أن الفساد المالي والاجتماعي والاقتصادي يجد قوته في ضعف مؤسسات المراقبة، لاسيما البرلمان.
في حين أقرّ محمد حميدو، أستاذ الاقتصاد ، أن الصناديق التي تعمل في إطار الحسابات الخصوصية ، لم تؤد في غالبها الأدوار التي أنشأت من أجلها. إذ أنها كانت في غالب الأحيان يتم التعامل معها كأنها صناديق سوداء وفي بعض الحالات كانت مجالا خصبا لتحقيق توازنات سياسية واقتصادية معينة، وظلل صعبا بمكان محاسبة هاته الصناديق من الناحية المالية والحكامة، وكذا من الناحية السياسية.
وقد سبق لحسن الداودي، أن وصم كثرة الحسابات الخصوصية بــ "المصيبة"، وانتقدها ووصفها بـــ "آلية تهريب الاعتمادات المالية".
إن نهج تدبير الحسابات الخصوصية، هو الذي أدخلها في خانة الصناديق السوداء البعيدة عن دائرة أضواء الشفافية. ويُقال إن اختيار اعتماد هذا النهج في التدبير أملاه هاجس جعل مسطرة التسيير مرنة قصد بلوغ الغاية المتوخاة بسرعة. لكن في واقع الأمر، إن هكذا نهج تدبير جعل هذه الصناديق تعيش غموضا كثيفا لا يسمح بالمراقبة المعتادة، الشيء الذي لا يتماشى وقواعد التصرف في المال العام، والتي تستوجب الشفافية والمراقبة والتتبع والمحاسبة والمساءلة.
ولازال القيّمون على الأمور ينظرون في الحسابات الخصوصية على أنها حسابات إلى جانب الميزانية العامة ومرافق الدولة المسيرة بطريقة مستقلة، وهي تعتبر من الآليات الأساسية لتفعيل السياسات العامة للتنمية، وذلك لمساهمتها في تمويل المشاريع المندرجة في إطار تنفيذ عمليات الإصلاح والاستراتيجيات القطاعية.
"الصندوق المشترك" التابع لإدارة الجمارك
يعتبر الصندوق المشترك، التابع لإدارة الجمارك، نموذجا صارخا للصناديق السوداء ضمن الإدارة المغربية. ويمول من عائدات النزاعات الجمركية والمحجوزات بمقدار ملايير الدراهم، علما أن ميلاده كان في خدم حالة الاستثناء التي عاشتها بلادنا في منتصف ستينيات القرن الماضي. وكان ذلك بموجب قرار وزير المالية وقتئذ، المامون الطاهري، سنة 1966 بعد تعليق المؤسسات الدستورية في البلاد.
ويقرّ المدافعون عن استمرار وجود هذا الصندوق السوداء بأن دواعي إحداثه مازالت قائمة إلى حد الآن، ذلك أنه يستجيب حتى الساعة لمتطلبات حيوية تتعلق بطبيعة عمل أعوان الجمارك والمتعاونين معهم وكل المتدخلين في التصدي لعمليات التهريب ووجوب تحديد مخصصات مالية لمحاربة هذه الآفة. ويضيفون
أن وجود هذا الصندوق تحت إمرة إدارة الجمارك لا يشذ عما هو معمول به لدى كل إدارات الجمارك عبر العالم والتي تتوفر بدورها على صناديق خاصة مشابهة تخضع لنفس القواعد تقريبا المعمول بها عندنا، سيما وأن التطور الذي عرفته عمليات الغش والتهريب واحترافية المتعاطين لها وتطور وسائلهم يفرض استمرارية هذا الصندوق، بغية دعم شبكة المخبرين الطين تساعدون إدارة الجمارك في التصدي للتهريب.
لكن هذا الصندوق يلفه الكثير من الغموض ولا يعلم أحد حجم المبالغ المالية التي تضخ فيه وأوجه صرفها، وتستفيد منه جهات خارج دائرة ومنطق الشفافية الذي من المفروض أن يحكم صرف المال العمومي. علما أن الصندوق لا يخضع لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات أو مراقبة المفتشية العامة لوزارة المالية.
ويستفيد الصندوق المشترك بنسبة 10 في المائة من عائدات المنازعات الجمركية والمحجوزات ، فيما تصل نسبة الخزينة العامة من هذه العائدات إلى 54 في المائة، و15 في المائة للجمعيات والأعمال الاجتماعية بدون تحديد هوية هذه الجمعيات وأصحابها، و10 في المائة إلى المخبر الذي بلغ أو كشف عن وجود حشيش أو عملية تهريب أموال أو سلع، وهذه النسبة يتسلمها سرا ويدا بيد من رئيس قسم المنازعات بإدارة الجمارك حتى لا يكتشف أمره. وتتسع دائرة الغموض حول هذا الصندوق الأسود عندما يتحدث القرار الوزاري أيضا عن 5 في المائة من العائدات تخصص لنفقات التسيير الخاصة بإدارة الجمارك ويستفيد منها الرئيس بالإدارة والمسؤول عن المخازن. كما يصرف جزء من مبالغ الصندوق المشترك كمكافآت لأعوان الجمارك الذين ينجزون أعمالا يظهرون فيها التضحية والشجاعة، تحفيزا لهم على البذل والعطاء وعرفانا بتضحيتهم.
عندما كان المكتب الشريف للفوسفاط صندوقا أسودا بامتياز
في السابق كان اسم المكتب الشريف للفوسفاط حاضرا بقوة، بشكل أو بآخر، في مختلف النقاشات المهتمة بنهب وهدر المال العام، علما أن الجميع أقر الآن بأن بلادنا عانت على امتداد أربعة عقود من نهب ممنهج للثروات الوطنية في ظل سيادة غياب المراقبة والإفلات من المساءلة. وقد مست هذه الظاهرة مختلف المؤسسات العمومية وشبه العمومية، ومجموعة المكتب الشريف للفوسفاط لم تكن خارج الدائرة وإنما في محورها، إذ شكلت صندوقا أسودا بامتياز تصرف فيه أكثر من، كل بطريقته الخاصة. والملفت للنظر هو أنه لم يسبق الاهتمام الكافي بالكشف عما طالها من نهب وهدر للمال العام، وهي المؤسسة العمومية المتحكمة في أهم ثروة وطنية، التي عولت عليها البلاد لإرساء أسس التنمية منذ الحصول على الاستقلال في منتصف خمسينيات القرن الماضي. واعتبارا لكون مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط ظلت تضطلع بمهمة تدبير أهم ثروة طبيعية وطنية في ملك الشعب تقوم بإدارتها الدولة، فإنه من حق المواطن أن يتساءل عن مآل الأموال المجنية منها ووجوه استعمالها وطرق صرفها.
إن المكتب الشريف للفوسفاط من المؤسسات العمومية التي تعرضت، منذ الاستقلال، إلى نهب وهدر المال العام بالرغم من أننا لم نسمع عن مساءلة أي مسؤول سابق بهذا الخصوص. لقد تعاقب على هذا المكتب أشخاص مارسوا الرشوة والمحسوبية واختلاس ونهب المال العام، وبذلك اقترفوا جرائم اقتصادية في حق الشعب المغربي باعتبار أن الأمر يهم أهم ثروة وطنية، الفوسفاط، فقد ظلوا يعاينون البلاد، وهي في أدنى مراتب سلم التنمية وفي المواقع المتقدمة بخصوص استشراء الفساد وتغلغل الرشوة وانتشار الفقر والتهميش والإقصاء. وبعض هؤلاء، بالأمس، عوضوا مفهوم التنمية الاقتصادية ومؤشراتها بتنمية أرصدتهم البنكية وتنمية مصالحهم بالداخل والخارج، ولم تحرك أي جهة ساكنا. هؤلاء وغيرهم اعتبروا، على امتداد سنين طويلة، المكتب الشريف للفوسفاط بمثابة صندوق أسود خاص بهم يتصرفون فيه كما يحلو لهم، كالمالك في ملكه دون حسيب ولا رقيب.
نعم، سيكون من الصعب التوصل إلى معطيات دقيقة، نظرا لأن عمليات النهب والهدر بالمكتب الشريف للفوسفاط تمت في ظروف غاب فيها أي نوع من المراقبة، وحتى لو تم الوقوف على بعضها سيبقى من الصعب بمكان تقدير حجمها ، ما دام أن هذه المؤسسة كانت صندوقا أسودا بعيدا عن الأضواء، وذلك رغم أنها من المؤسسات التي دأبت على نشر حساباتها سنويا. وحسب أحد المصادر المطلعة، منذ بداية سنة 2006، علم القصر الملكي بالوضعية التي تعيشها مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، وفي فبراير 2006، بدا الغضب جليا على الملك محمد السادس، وفي نفس الشهر تم تعويض مراد الشريف بمصطفى التراب الذي نودي عليه من واشنطن، حيث كان يشغل منصبا رفيعا بالبنك الدولي.
وقد سبق لأكثر من مصدر أن أكد نهب مبالغ هامة وتبذير أموال طائلة في الحفلات والأسفار والمناسبات والخدمات الصورية، ناهيك عن الأجور والتعويضات الخيالية التي يتوصل بها جملة من المسؤولين بالمكتب والتي تتعدى في الحد الأدنى 30 مليون سنتيما وقد يصل إحداها إلى 100 مليون سنتيما، كما سبق أن تم تقديم رقم 10 مليار درهم من طرف أكثر من جهة نهبت في فترة تاريخية معينة، علما أن مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط تتصرف في ميزانية ضخمة، لا مثيل لها في أي مؤسسة عمومية أخرى، اعتبارا لاحتكار مكتبها الشريف تدبير أهم ثروة وطنية.
لقد استفاد من نهب وهدر المال الذي طال المكتب، ثلة من الأشخاص الذين كانوا يستفيدون أصلا في كنفه، من أجور "طيطانيكية" قدرت بالملايين ومن عدة امتيازات أخرى، كامتياز "البرستيج" الذي كان يكلف مالية المكتب أموالا طائلة. وساد هذا الوضع واستشرى في ظل غياب المراقبة، القبلية منها والبعدية، علما أن المكتب مؤسسة عمومية من المفروض أن تكون تحت مراقبة الدولة.
ومن المفارقات الغريبة، أنه بموازاة مع نهب وهدر المال العام الذي طال مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، فإنها تقوم بمبادرات اجتماعية، منها ما وضعها القائمون عليها تحت عنوان: "سياسة المواطنة المنتهجة من طرف المكتب"؛ ملايير نهبت وملايير أهدرت سنويا، والمكتب يبادر بتوزيع بعض المواد الغذائية على أسر معوزة في بعض المناطق المجاورة للمدن الفوسفاطية، وتتكون هذه المواد من الدقيق والسكر والزيت والشاي، وبعدها تنشر بلاغات تختتم مرارا بعبارة: "وقد خلفت هذه الإعانات كسابقاتها ارتياحا وأثرا طيبا في نفوس المستفيدين وكافة السكان بشكل عام".
ففي غضون شهر نوفمبر 2006، أكد أكثر من مصدر أنه تم تكليف شركات أجنبية للقيام بتدقيق حسابات المجموعة، وقيل آنذاك إن انجليزيين وفرنسيين تكلفوا بهذه المهمة، ومرد ذلك أنه تم كشف ثقب أسود نزفت منه الملايير على امتداد سنوات.
ومن النقط السوداء التي بدأت تتناسل بخصوصها عدة تساؤلات في هذا المضمار:
- مكتب باريس.
- الصفقات المرتبطة ببيع الفوسفاط الخام والحامض الفوسفوري.
- مصالح المشتريات الدولية والوطنية والمحلية.
- الصفقات العالمية للصيانة وأشغال الصيانة الوطنية والمحلية.
- عقود الخدمات المقدمة للمكتب من طرف الأوراش المحلية.
- المصالح الاجتماعية على الصعيد المركزي والجهوي والمحلي.
إن بعض العاملين بالمكتب سابقا، خلقوا شركات بالخارج، الجزء الكبير من رقم معاملاتها تحققه من خلال تعاملاتها مع المكتب، علما أن هذا الارتباط تقوى منذ عهد كريم العمراني. فكيف كان يتم نهب الأموال؟
من الأساليب المتبعة والتي ساهمت في التغطية عن نهب وهدر المال العام بالمكتب، إبرام صفقات على هامش القانون، مع شركات بعينها ظلت مرتبطة بالمكتب منذ سنوات. وكذلك التعاقد الضمني بالتراضي بخصوص صفقات تهم ملايير الدراهم على امتداد أكثر من 10 سنوات، وتفويت الأشغال عن طريق التراضي أيضا عوض اعتماد المسطرة المتعارف عليها. هذه الأساليب وغيرها أدت إلى إثراء جملة من الأشخاص بطريقة غير مشروعة، وأصبحوا الآن من ذوي الثروات العالمية وأصحاب شركات، مقرها بالخارج، وظلوا على علاقة بالمكتب الشريف للفوسفاط "ولي نعمتهم"، سواء في مجال الوساطة في تسويق الفوسفاط والمنتوجات المصدرة أو في مجال الصيانة والتزويد بالمعدات والآليات.
ومن "المناطق السوداء" التي تناسلت في إطارها عدة تساؤلات، المصالح الاجتماعية للمكتب التي أشار الكثيرون إلى تداعيات التلاعب باعتماداتها الاجتماعية والرياضية والثقافية.
وقد شكل مكتب باريس التابع للمكتب الشريف للفوسفاط صندوقا أسودا مستقلا بذاته. وقد لف غموض كثيف حساباته على امتداد سنوات طويلة الشيء الذي ساهم في تغليف التعاطي للرشوة والتواطؤ وهدر المال العام بخصوص بيع الفوسفاط بأثمنة بخسة لبعض الشركات بعينها، تديرها عائلة كان أحد أفرادها يعمل سابقا بالمكتب المذكور. وصرح لنا أحد العارفين بخبايا أمور المكتب الشريف للفوسفاط، أنه بالأمس، وعلى امتداد سنوات طويلة، ظلت الإدارة المركزية للمكتب كواجهة، في حين كان مكتب باريس التابع له يتحكم في الأمور، آنذاك كان على رأسه أحد الفرنسيين يدعى "دافوفيل"، وكان قائما على أموره المالية أحد اليهود، وكانت تربطه علاقة متينة مع جملة من الشركات، من ضمنها الشركة الألمانية "كروب" الدائعة الصيت؛ و كان مكتب باريس يتحكم عن قرب في مختلف آليات التسويق والدواليب المالية مع زبنائه بفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
ومن الأمور التي إثارت جملة من التساؤلات، الصناديق السوداء التي ظل يتصرف فيها مكتب باريس والتي همت مبالغ مالية لا يعلم قدرها إلا الله، غير مثبتة في الوثائق المحاسباتية المتعارف عليها، علما أن مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط تعتمد أحدث المناهج والتقنيات في مجال الحسابات المالية والشؤون المحاسباتية وتتوفر على أحسن الكوادر المغربية في هذا الاختصاص.
الصندوق الأسود للمخابرات المغربية
يعتبر "الكاب 1" منبع كل الأجهزة المخابراتية المغربية. فمنه انبثقت "الديسطي" و "لادجيد"، وكان الجنرال محمد أوفقير أو رئيس "للكاب 1" الذي تأسس تحت إشراف المخابرات الفرنسية، لكن سرعان ما تكلفت المخابرات الأمريكية والموساد بإعادة هيكلته.
في البداية كان تمويل "الكاب 1" يتم بتخصيص ميزانية توضع في صندوقه الأسود يتصرف فيها الجنرال أوفقير بدون حسيب ولا رقيب (وكان قد كلف أحمد الدليمي بتدبيره)، وموازاة مع ذلك كان "الكاب 1" يستحوذ على 75 في المائة من مداخيل دور الدعارة التي كانت دائمة الاشتغال بفعل حمايتها من طرف عناصر الجهاز، ولعدم إثارة الشبهة كانت إدارة تلك الدور والفنادق تعهد لبعض الفرنسيين، بعضهم شاركوا بامتياز في عملية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة، وظلت أموال دور الدعارة تتهاطل على صندوق "الكاب 1" فيما بين 1962 و 1974، يتصرف فيها القائمون على الجهاز بدون حسيب ولا رقيب.
عموما ظلت الأجهزة الأمنية والمخابراتية تتوفر على صناديق سوداء لا تخضع لأي مراقبة تساعدها على القيام بالمهام السرية المنوطة بها والتي غالبا ما تحتاج لتمويل مهم وفوري لا يتماشى مع قواعد المراقبة المالية المعتادة.
وقد سبق وأن نشرت عدة صحف عربية أن المغرب قرر إقامة أكبر شبكة مخابرات في المغرب العربي ستكون أقوى من مخابرات تونس، والجزائر، وذلك اعتبارا للتطورات الخطيرة و مضاعفاتها الاستراتيجية و المستقبلية على المنطقة.
وتحدثت عن التعاون بين مخابرات المغرب (مديرية الدراسات وحفظ المستندات)، المعروفة باسم (لادجيد)، والخليج، الذي سيوفر ميزانية لمخابرات المغرب ستصل إلى مليار دولار سنويا (ما يناهز 8 مليار درهم).
الصناديق السرية غير المرئية تصرف فيها إدريس البصري
من الصناديق السوداء السرية تلك الصناديق التي ظلت الأجهزة الأمنية السرية تتوفر عليها.
فلا يخفى على أحد الآن أن وزارة الداخلية ومديرية مراقبة التراب الوطني (الديسطي) كانتا تتوفران على صندوق أسود، وكان إدريس البصري المسؤول المباشر عليهما فيما بين سنة 1973 و سنة 1999 تاريخ خلعه وإعفائه نهائيا من مهامه .وظل يتصرف فيهما دون حسيب ولا رقيب.
هذا إضافة إلى الصندوق الخاص بملف الصحراء المسترجعة الذي كان يتصرف فيه كذلك تصرف المالك في ملكه الخاص كيفما كان يحلو له.
كما أدلت أكثر من جهة أن إدريس البصري كان وراء جملة من التلاعبات بخصوص الاكتتاب لبناء مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء والتي تم التصرف فيها كصندوق أسود بعيدا عن أية مراقبة.
منقول عن : الحوار المتمدن .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق