الخميس، 20 أغسطس 2015

مسخ المسخ !

مسخ المسخ !
يحكى أن ناسكا متعبدا ، في قرية من القرى ، كانت له حظوة بين أهل القرية ، لما رأوا فيه من استقامة وحسن خلق ، إحترموه جميعهم ، كبيرهم وصغيرهم ... ، قدروه إلى حد التقديس ، استشاروه في أمورهم الخاصة ، وأمور القرية العامة ، بل ولوه بعض شؤونها ، وسلموه مفاتيح خزائنها ، وهم على يقين أنهم وضعوها في يد أمينة ... دارت الأيام ودار معها عقل الرجل ، وتبدلت أحواله ، زاد ماله ، وقل إيمانه ، زاد روعه بنفسه و قل ورعه من خالقه ... شرب اللبن مرة حتى ارتوى و فضل عليه اللبن ، لم يفكر في إكرام النعمة بالحفاظ عليها أو إعطاء ما فضل عليه للجار المحتاج ... بل فضل التوضِؤ باللبن الزائد عن حاجته ، فجسده هو لا يليق به إلا اللبن مطهرا ! قام للصلاة بعد أن ارتدى جلبابه الأبيض وسلهامه الأسود ... صغر جسده واستحال اللباس ريشا ، وامتد من فمه منقار طويل ، وطالت ساقه ... فصار طائرا من الطيور ،يتنقل بين الحقول والوديان ،و يقتات من الحشرات والديدان ... وحرم نعمة اللبن ...عقابا له على فعلته القبيحة ، بنى لنفسه عشا كبيرا على مئذنة المسجد ، يطل منه على جميع حقول القرية ، ويطير منه ليسبح في الهواء بجناحيه الطويلتين في طلعاته الإستكشافية لكل القرية ومحيطها ... يحط حيث يحلو له ، وحيث يجد كلأه ، ويشبع حاجته ... يتمتع بمناظر القرية الطبيعية ، يتعرف سهلها ووعرها ، تلها و واديها ... يتلذذ بجميع منتوجاتها ومكوناتها الطبيعية : سنابلها و ورودها ، حشراتها و ديدانها ... لم تكن الطيور الأخرى ، حتى الكواسر منها تقوى على مزاحمته فيها ... ولم يكن أحد من بني البشر يضايقه أو يزعج راحته ، فقد كان الكل يعتبره من الطيور "المقدسة" التي يجب احترامها ، خاصة وأنه بنى عشه فوق المسجد ، واحتمى به .
بقي على تلك الحال شهورا وسنين ... سواء رضي أم لم يرض بها ، ولكن على كل حال ، مادامت الحاجة مقضية ، فلا بأس . تغيرت حالة القرية ، امتد عمرانها ، وتراجعت حقولها ، وقلت مساحاتها الخضراء ، وضاق المجال الحيوي بها ، وقلت منتوجاتها ... وصارت لا تلبي حاجته كما كانت من قبل ، وصار يتضايق من الآخرين ، بل صارت حاجته صعبة المنال ، ولم يعد يحاط ب"القدسية " التي كانت له من قبل ، لم يعد راضيا على حالته وعلى شكله ، تمنى لو عاد إلى حالته الأولى ، ولكنه تساءل عن مدى استفادته وعما سيجنيه منها ؟ وهل سيحظى بالتقدير الذي كان له من قبل من طرف بني جنسه وسكان قريته؟ هل سيقضي كل نزواته و شهواته وحاجاته ... دون أن يجد من يعارضه أو يعاكسه في ذلك ؟ ... راودته شكوك كثيرة ، بل تيقن أنه لن يضمن ذلك ، فإن الأمور قد تغيرت ، والميدان بما فيه ومن فيه تغير ، والوقت تبدل ... و "العاقل" هو من يستطيع أن يتغير مع كل تلك التغيرات ويسايرها ، ويسبح مع التيارات أينما اتجهت ويداريها ، دون أن يشعر به أحد ... ما العمل إذن ؟ لابد من التلون بتلون الأشياء ، والتشكل بأشكالها ، حسب المواسم والفصول ، وحسب المصالح ، المعقول منها وغير المعقول ... إجتهد و أبدع وتفنن في أن يأخذ ألوان أوراق الأشجار، والسنابل والأزهار ... بل وبرع ،إلى حد المكر ، في أخذ شكل الوردة ، حين وضع نفسه وسط باقة الورود لينال من عطرها، فظهر و كأنه وردة فواحة بأريجها ، و أخذ شكل التفاحة عندما حط على شجرتها يتغذى منها ... بل تعدى أشكال النباتات إلى أشكال الأشياء والآلات ... أخذ شكل الخنجر والجرار والقارب يشق عباب البحار، وأخذ شكل اليراع والكراس و المصباح يضيء دجى الناس... كل ذلك بين عشية وصباح ، حسب الحاجة وحظوظ النجاح ... فزاد بذلك مسخا على المسخ ، فلا هو عاد إلى أصله ، ولا هو حافظ على شكله ، وصار كل شيء لديه به مسموح ، بعدما فقد هويته، وصار مسخ مسخ مفضوح .

م عبد الرحمن الهاشمي علوي
سلا : 17/08/2015


مسخ المسخ !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق