حِـكـايات رجلِ التعليم الابتدائي سِجـلٌّ طـافِحٌ بالغرائب و العجـائب و المآسي، و تبدأ حكـايته عندمـا يلتحـق بفرعيتـه لأول مـرة عندمــا يجدُ نفســهُ مُلقًى ضمن "زْلافـةٍ" جبليـة تُطـوِّقُـه من كـل الجهـات، قـد يمتـصُّ هـذا المسكين صدمـةَ الواقـع و ارتداداتـه و قـد يَخــتلقُ لنفسـه أساليب استرواحيـة تُنَــسيــه وحشـةَ المكـان و غُربتَـه، نعم، قــد يتفـاعـل برفقـة زمـلاءٍ غُربـاءٍ فــيتنـاسوا ألـمَ المكـان الرهيب و صعوبةَ تضاريسـه.
كــل شيء في العـالم القروي يوحـي بسنوات عِجـافٍ عند الأستـاذ، فالترحـال بين الطرق المُلتويـة و التأقلم مـع الظـلام الدامس و التعود علـى نمطٍ حياتـي مُفـارقٍ و محـاولـةُ ضبط طوفانٍ من التـلاميذ مُتعددي المستويات لتحسين الإنتـاج التعلمي و غيرهـا عنـاصـرٌ يكتوي بنيرانـه الأستـاذ القروي يوميـا علـى مدار أعـوامٍ مديدة، و كــأن الأيام "البدويـة" مرايـا تستنـسخُ في كـل لحـظـة معـانـاةٍ طـوالِ لا تنقضي حلقاتُـه، و بيـن أشغـالِـه و ضغوط واقعِـه يختـلي أحـيانـا بصمتٍ يهمسُ لنفسـه عـن هـذا العـالم الغريب : كيفَ وُجِدتُ هنـا بين جبالات مُحـاصِرة و أشواكٍ مُتنـاثرةٍ و أقسـامٍ مُهتـرئـةٍ و ظروفٍ مُؤزِّمـةٍ ؟ كيفَ أواجـهُ هـذه الفُسَيفسـاء في النظـام التعليمي و هـذا الضنـك المـادي ؟ كيفَ لـي بتأمـين حياتـي وسطَ مآزق معيشية و انعدامٍ للحد الأدنـى من التغذية البسيطـة ؟ كيفَ لـي بتحصين فكري وسطَ هـذا الجهـل المُحيط بي بلهَ تطوير مؤهـلاتـي و مواهبي النقدية في حقول المعـرفـة ؟ كيفَ و كيف ؟ و كيف ؟
يغرقُ الأستـاذ القروي في بِحـارٍ من التأمـلات السحيقـة في غـياهب المجهـول الطـارئ و يشـرعُ في البحث عـن حلول تسمحُ لـه بشيء من التنفيس عن الذات فيختلقُ لنفسـه الأمـانـي و يبنـي أحـلامـا أشبـه بتريـاقٍ معنوي يفك عـن تلابيبـه ضغطَ الواقـع و إكراهـاته، يُسـافِـر بعيدا في عـالـم "المُــثل" ليبتكـر نمـاذجَ تُعينـه علـى التشبـث بالأمل و يسمـحُ لمخيالـه ليتذكـر قطـاعًا من الأسـاتذة و قد سلكوا مسلكـه فانفرجت لهم الأبواب حتـى إذا أغرقَ في استصحـاب النمـاذج ارتطمت أحـلامُـه بمرارة الواقع الذي لا يرتـفع و تذكَّـرَ طوفـانـا من الأساتذة المُؤَبدين في العالم القروي و قـد تحولوا إلـى أسـرى نبتوا و تفرعت جذورهم في نفس المكـان ! تذكـرَ مـا لا يُحـصى من زمـلائه و قد أكلتهم سنواتٌ عِجـافٌ استنزفوا كـل طـاقاتهم العقلية و البدنية و الوجدانية و استنفروا كـل امكـاناتهم المِهنية أمـلا في إنقـاذ أطفـالٍ أنهكَـهُـم الجهـل و الجوع فضلا عـن جغرافية المكـان ...كيـفَ أتحررُ من بؤس الواقع و أفـي في المقابل بمسؤولياتي تُجـاهَ هـؤلاء الضحـايـا الأبريـاء ؟ كيفَ أتأقلمَ مـع سياقٍ مأزوم و ملغومٍ و رهـانـي في الانتقال لمكـان أفضـل صـارَ من المُحـالات ؟
يُفكـر المأسور و تتراكمَ عليـه الضغوط من كـل جـانب ، كيفَ لــم أفكِّرْ في هـذا ؟ لا حـلّ من هـذا الوضع إلا باستكمـال مساري الدراسي و تطوير مُكتسباتـي العلمية بموازاةٍ مـع مسؤوليتـي التعليمية داخـل الفصـل، و بهذا أكـونُ قـد تحررتُ من قمقم موتِ المَلكـة و أنعشتُ ذاكرتـي و حـافظتُ علـى رصيدي المعرفي ...
و تمـضي الأيـام و المأسور يجهـدُ نفسَـه بالإعداد للمباريـات الجـامعية و وجهُهُ يـشعُّ فرحـًا بأيـامٍ رائعـة قادمـة إليهِ لتنتشلـه من وحـلِ واقعٍ رهيب يقتلُ فيه كل شيء، و بين لحظة و أخـرى يترقبُ ظهور مسلك هنـا أو هنـاك ليزفَّ إليه خبرَه السعيد فتكتمـل فرحتـه الهادرة ، يوصـي كـل صديق و قريب و كأنـه يضعُ "رادارات" بشريـة في كـل جـامعـة تستـقي لـه نبأ فتحِ مسلكٍ فينقضَّ عليـه انقضاضَ الأسد علـى فريستـه، و في كـل يوم يمضـي من حياتـه يزداد نشوةً فريدةً ،فقد وثِــقَ بقدرتـه علـى النجـاح و صارَ مُتأكدا من الحصول علـى ثمرة مجهوادتـه التي سهر من أجلهـا الليالي الطوال..و فجأةً ! فتحت الجـامعـات أبوابهـا لتسجيل الطلبـة الوافدين في مسالك الماستر فيقتنـص المأسور الخبرَ ليُحركَ كـل الرادارات الممكنـة لاستطـلاع الخبر : و أخيرًا يتحقق الحلم البعيد ، سأجمعُ علـى الفور كـل الوثائق المطلوبـة لأرسلهـا علـى عجـل إلـى عنوان الكلية، فكل شيء في متنـاولي...يقول المأسور
اضطربَـتْ جوارحُ المأسور فرحـاً بمـا كـان ينتظرهُ منذ شهور و راحَ يبنـي في عقلـه عـالمـا آخـر ،عـالمٌ ينـالُ فيـه شهـادتـه العليـا لتكونَ لـه ظهيرا علـى تغيير إطـاره التربوي فيتحررَّ من عبودية العـالم القروي و نكـباتـه التـي لا تنتهـي، لقد صـارَ الآن متفائلا رافعًـا رأسَـهُ أمـام زمـلائـه يُبشرهم بغد أفـضلٍ من هـذا البؤس السحيق، يُغنِّـي مـع نفسـه فاتحـا مشاعـره لكل كبير و صغير و كأنـهُ وصلَ الجبـالَ طولا أو كأنمـا خرت بـه الطيور في وديانٍ من الجنـان النفيسـة ! و أمـامَ هـذا الشعـور الفريد راودهُ مرة أخرى شغَـفُ التمتـع بالنـظر في إعـلان مباراة اجتياز المـاستـر من جديد لُيُنـسي بهـا مـا يتلجلجُ في نفسـه من هموم الواقـع و إكراهـاتـه، فبينمـا هو يتصفحُ مواضيع المـاستر عبر هـاتفه الخلوي و يُـقلِّـب النظـر في عنـاوينهـا الرائعـة و يُديمُ التحديق في فروعهـا التخصصية يزدادُ شيئـا فشيئـا غِبطـةً و سعـادة و كأنـهُ تحقق لـه حلمـه منذ الآن ، يا لمسكين هـذا المأسور يُسـابِق الزمـن و يُؤسس لنفسـه عـالمـا من الأوهـام هربـا من واقعـه المؤلم، يتشبثُ بكـل قشــةٍ و يبنـي عليهـا آمـالا عريضـة من التمنيات المكبوتـة في وسطٍ جبلي يُحـاصِـر عقلـه و جسده قسرًا !
بينمـا هـو يتلـذذ بالتخصصات المعرفية للمـاستر المطلوب و يُكلِـمُ نفسـه عـن آفـاق هـذا الاكتشاف الجديد و يُحدِّثُ زمـلاءه المأسورين بهـذا الفتـح الكبير و يشـرح لهم خـطـة الخروج من هـذا النـفق القروي الرهيب لمُعـانـقَـة عـالمٍ آخـر من التعليم أسرَّتْ إليه نفسيتُـهُ التأكـدَ من سهولـة تجميع الوثائق المطلوبـة، يمـرُّ من شرطٍ لشرط، و كلمـا انتقل للمـوالي انشرحَ صدرَه و تنـور وجهَه بسمةً و إشراقـا حتـى إذا أتمَّ كلهـا ارتـاحَ قلبـه و اطمأن ضميره، لـقد تعـوّد و هـو في العـالم القروي أن لا يمـر شيء إلا بعد الضنك الشديد و أن لا يتحقق شيء يُذكَـر إلا بعـد شكوك كبيرة و تحدي العوائق العويصـة، فكيفَ لا يَشكُّ الآن و قـد تعلـم درسـا بليغـا في مغربنـا الحبيب ! هــلّـــــلَ المأسور طربـاً بصدقِ حدسـه و وجدَ الساحـة خـاليـة لـهُ تنتـظر إيداع ملفـه بكـل سهـولـة ...مسكـين هـذا المأسور فقـد رفعَـه الفرحُ الشديد عـن واقعـه و أعمـى نـظرَه عـن القراءة المتأنية و صـارَ لا يقرأ شيئـا إلا بعـاطفتـه الجياشـة و كأنـه ألغـى عقلَـه كـامـلا و فسحَ المجـال للخيال الجـامح يُقرر لـه الموجود من اللاموجود ! . كـان بصرُهُ شـاخـصا في تِـعداد الشروط المطلوبـة و النظر في طريقـة الترشيح و التركيز علـى تـاريخ بدايـة إرسـال الملفـات إلـى الكليـة المقصودة، لــم يكن يتصور قطُّ أن يتحطمَ كــلُّ شيءٍ في لحظـة خـاطفـة، لـم يكن يدري أنّ مـلاحـظةً صغيرة موضوعـةٍ بحجمِ خطٍّ صغيرٍ أسفـلَ الوثائق المطلوبـة من شأنهـا أن تُدمِّــر عـالَمـا من الآمـال التـي بُنِيت علـى رِمـال مُتحركـة !مـا هـذا الموجود تحت الوثائق المطلوبـة ؟ يتسـاءلُ المأسور في تعجبٍ و ذهولٍ...أمِنَ المعقـول ؟ يتلعثمُ المسكيـن و يتوقفُ لسانـه عن الحركـة و يتجمَّـدُ دمُـه و يتبخـرُ كـلُّ شيء في لحـظة ، مجرد لحظة ! العبارة تقول "أثنـاء عملية التسجيل النهـائي يجبُ الإدلاء برخـصـة مُتـابعـة الدراسـة بالنسبـة للموظفين" ...
لازالَ المأسور يُعيدُ العبارة في كـل مرة و يشرح مفرداتهـا قطعةً قطعـة حتـى إذا استعصـى عليـه فهمَهـا التمسَ من زمـلاءه شرحهـا، لا فائدة ! فالعبارة لا تحتـاجُ لتأويلٍ و لا لشروحـات و كـلُّ شيء فيهـا واضح وضوحَ الشمس في رابعـةِ النهـار ...تكسـرت الآمـال العريضـة علـى صخرةِ "ملحوظةٍ" صغيرةٍ وُضعت أسفل سافلين و انهـار المأسور و خـارت معنوياتـه و دخـلَ في غيبوبـة مظلمـة لا يجد طعمـا في أكـلٍ و لا كـلام ، كيفَ يُعـقَلُ هـذا ؟ أنُمنَـعُ من متـابعـة حقنـا في الدراسـة العليـا حتـى و نحن في هـذا العـالم الكئيب تحوطنـا الجبـال من كـل مكـان ؟ أنُمنَـعُ من تطوير مؤهلاتنـا الفكريـة و في حقنـا في تغيير إطـارنـا التربوي و يُحكَــمُ علينـا بالمـؤبــد هنـا في بلاد الصخور و التـلال و الضنك ؟ كـلا ! ربمـا وقعَ خطأ استثنـائي ، ربمـا ارتبط شرط استصحـاب الرخـصة بهـذه الكليـة فحسبْ لسببٍ من الأسباب، ربمـا لأن الإقبـال علـى المسلك كبير لا يُتيحُ الفرصـة للموظفين بالتسجيل فيهـا، ربمـا لأن القيدوم لـه حساسيـة خـاصة مـع الموظفين،ربمـا و ربمـا ...
صـارَ المأسور يخترعُ لنفسـه الأعـاذير الممكنـة لإلهـاء ذاتـه و إعطـائهـا نَفَـسـاً جديدا، صـارَ يستجمعُ بعض القـوى الآن ليُعيدَ بنـاء الأمـل الذي تهدّم،كـيفَ لا و في بلادنـا مصاعب دائمـة تُواجهُ الغيورَ و أهـلَ الكفاءات ؟ كيف لا و المغرب بلدُ العجـائب و الغرائب في اجتـياز المباريات ؟ عـاد إلـى الأستـاذ المأسور شيءٌ من الهدوء و قرَّر مواصلـة المعركـة من جديد و استنفـر "رادارات" بشريـة مرة أخـرى في كـل مدينـة و كأنـه يخوض حربـا ضروسـة تُجنَّـد لـه استخبارات "عسكرية" مرموقـة ! في قريتـه المعزولـة و في ظلمـات الليل و هدوء الصبـاح ينتظـر كـل لحظـة بلحظةٍ خبرا يزف لـه البشرى، ينتـظر رنين هـاتف يُعيدُ لـه طموحـه و يزرع فيـه حب المعرفـة من جديد، و لـم يكن يتوفـر هـو غير هـاتفه الخلوي بشبكـة ضعيفـة لا تُسعِفـهُ في استطـلاع الرأي عبر الأنترنت، كـلّ الأجواء مُكَهـربـة و كـل الأدوات مُنعدمـة فلا أمـل إلا برنينٍ عبـر الأثير يحملُ مـعهُ النبأ العظيم عنده ...تـمر الأيـام تلو الأخـرى و يغيبُ أيَّ صوتِ رنينِ هـاتفه و تتجمّعُ في عقلـه كـلّ صور اليأس و الاستسلام و تنكمش شيئا فشيئـا تطلعـاتُـه العـالية و يخرُّ الأمـل أرضـاً فلا تسمعُ إلا همسـاً...
بينمـا صـاحبنـا الأستـاذ المأسور في خضم فصلـه الحـارّ باكتظاظ التلاميذ و تعدد المستويات و بينمـا يهمُّ بالخروج من بِحـار التنـاقضات التـي تفرضهـا الأقسام المُعتَركـة إذا برنينٍ آتٍ من أحد زمـلائه... نـاولَ المأسور هـاتفهُ الخلوي مُرتجِفـا و كأنـه ينتظـر ضربـة قاضيـة أو خبراً مُبشِّراً ، فإذا برسـالـة زميلـه يحمـلُ إليـه خبرا مشؤومـا: كليـة كذا في مسلك كذا تشترط هـي الأخـرى رُخـصة متابعـة الدراسـة للموظفين... يا لـه من يومٍ عصيبٍ، لقد اسودت الدنيا في وجـهه و صـار كـلُّ شيء كـالحـا و تغير المزاج النفسي و بلغَ السيل الزبـى ...حسبنـا الله و نعم الوكيل و لا حول و لا قوة إلا بالله العظيم.
إلـى هنـا تـأبَّــدَ وجود الأستـاذ المأسور قرويـًّا و بدتِ القريـة المنكوبـة سجنـاً رهيبـا يُقيِّدُ كــل حركـاتـه، امتد فكره ليستحضـر أهلـه و أبنـاءه و هـم في حـاجـة إلى حنـانـه و أبُوتـه و كأنـه يودعُ أعـز أقرباءه ، توالتِ الرسائل القصيرة عليه من كـل مكـان لتشي كلهـا بنفس المعنـى ، معنـى حِرمـان الأستـاذ الموظف من متـابعـة دراستـه العليا و الحكم المُؤبـد علـى الأساتذة القرويين، هـيَ حكـايـةٌ واقـعٍ يعيشـه قطـاعٌ واسعٌ من الأساتذة في العـالم القروي وسطَ إهمـالٍ حُكومـي و إغراقٌ لـه بالمسؤوليات في وسـطٍ يعجُّ بالمفارقات الجغرافية و التربوية و المـادية...
ينتقلُ المأسور من محـاولة لمحـاولة و يجهـدُ نفسـه لابتكـار أية وسيلـة لنقض حكم المؤبد عنـه، و في كـل مرة يكتشفُ وجودَ مخرج يعود القهقرى من جديد، راهنَ المسكين علـى متـابعـة الدراسـة العليا فمـا لبثَ أن سقطَ طريحـا ،ثم راهنَ علـى تغيير إطـاره عبر اجتياز مباراة مراكز التكوين فوجدَ من جديد شرطَ "تُفتَحُ لغير الموظفين"، ثم راهـن علـى حركـة انتقالية تُخرجُهُ من قمقم البادية فوجدَ نفسـه مسبوقـا بمعـايير اللحـاق و أهـل ملفات طبية بسنوات ضوئية ..بكلمـة صـارَ حكم التأبيد نـافذا إلـى مـا لا نهـايـة...
محكــــــمَـة !!!! حكمت المحكمة حضوريـا علـى الأستـاذ القروي بالمؤبـد مـع الأشغـال الشـاقـة مدى الحياة و فـصل ذاتـه عـن الحياة الأسرية و حِرمـانـه من أي امتياز ... رُفِعَــتِ الجلــســـة
كــل شيء في العـالم القروي يوحـي بسنوات عِجـافٍ عند الأستـاذ، فالترحـال بين الطرق المُلتويـة و التأقلم مـع الظـلام الدامس و التعود علـى نمطٍ حياتـي مُفـارقٍ و محـاولـةُ ضبط طوفانٍ من التـلاميذ مُتعددي المستويات لتحسين الإنتـاج التعلمي و غيرهـا عنـاصـرٌ يكتوي بنيرانـه الأستـاذ القروي يوميـا علـى مدار أعـوامٍ مديدة، و كــأن الأيام "البدويـة" مرايـا تستنـسخُ في كـل لحـظـة معـانـاةٍ طـوالِ لا تنقضي حلقاتُـه، و بيـن أشغـالِـه و ضغوط واقعِـه يختـلي أحـيانـا بصمتٍ يهمسُ لنفسـه عـن هـذا العـالم الغريب : كيفَ وُجِدتُ هنـا بين جبالات مُحـاصِرة و أشواكٍ مُتنـاثرةٍ و أقسـامٍ مُهتـرئـةٍ و ظروفٍ مُؤزِّمـةٍ ؟ كيفَ أواجـهُ هـذه الفُسَيفسـاء في النظـام التعليمي و هـذا الضنـك المـادي ؟ كيفَ لـي بتأمـين حياتـي وسطَ مآزق معيشية و انعدامٍ للحد الأدنـى من التغذية البسيطـة ؟ كيفَ لـي بتحصين فكري وسطَ هـذا الجهـل المُحيط بي بلهَ تطوير مؤهـلاتـي و مواهبي النقدية في حقول المعـرفـة ؟ كيفَ و كيف ؟ و كيف ؟
يغرقُ الأستـاذ القروي في بِحـارٍ من التأمـلات السحيقـة في غـياهب المجهـول الطـارئ و يشـرعُ في البحث عـن حلول تسمحُ لـه بشيء من التنفيس عن الذات فيختلقُ لنفسـه الأمـانـي و يبنـي أحـلامـا أشبـه بتريـاقٍ معنوي يفك عـن تلابيبـه ضغطَ الواقـع و إكراهـاته، يُسـافِـر بعيدا في عـالـم "المُــثل" ليبتكـر نمـاذجَ تُعينـه علـى التشبـث بالأمل و يسمـحُ لمخيالـه ليتذكـر قطـاعًا من الأسـاتذة و قد سلكوا مسلكـه فانفرجت لهم الأبواب حتـى إذا أغرقَ في استصحـاب النمـاذج ارتطمت أحـلامُـه بمرارة الواقع الذي لا يرتـفع و تذكَّـرَ طوفـانـا من الأساتذة المُؤَبدين في العالم القروي و قـد تحولوا إلـى أسـرى نبتوا و تفرعت جذورهم في نفس المكـان ! تذكـرَ مـا لا يُحـصى من زمـلائه و قد أكلتهم سنواتٌ عِجـافٌ استنزفوا كـل طـاقاتهم العقلية و البدنية و الوجدانية و استنفروا كـل امكـاناتهم المِهنية أمـلا في إنقـاذ أطفـالٍ أنهكَـهُـم الجهـل و الجوع فضلا عـن جغرافية المكـان ...كيـفَ أتحررُ من بؤس الواقع و أفـي في المقابل بمسؤولياتي تُجـاهَ هـؤلاء الضحـايـا الأبريـاء ؟ كيفَ أتأقلمَ مـع سياقٍ مأزوم و ملغومٍ و رهـانـي في الانتقال لمكـان أفضـل صـارَ من المُحـالات ؟
يُفكـر المأسور و تتراكمَ عليـه الضغوط من كـل جـانب ، كيفَ لــم أفكِّرْ في هـذا ؟ لا حـلّ من هـذا الوضع إلا باستكمـال مساري الدراسي و تطوير مُكتسباتـي العلمية بموازاةٍ مـع مسؤوليتـي التعليمية داخـل الفصـل، و بهذا أكـونُ قـد تحررتُ من قمقم موتِ المَلكـة و أنعشتُ ذاكرتـي و حـافظتُ علـى رصيدي المعرفي ...
و تمـضي الأيـام و المأسور يجهـدُ نفسَـه بالإعداد للمباريـات الجـامعية و وجهُهُ يـشعُّ فرحـًا بأيـامٍ رائعـة قادمـة إليهِ لتنتشلـه من وحـلِ واقعٍ رهيب يقتلُ فيه كل شيء، و بين لحظة و أخـرى يترقبُ ظهور مسلك هنـا أو هنـاك ليزفَّ إليه خبرَه السعيد فتكتمـل فرحتـه الهادرة ، يوصـي كـل صديق و قريب و كأنـه يضعُ "رادارات" بشريـة في كـل جـامعـة تستـقي لـه نبأ فتحِ مسلكٍ فينقضَّ عليـه انقضاضَ الأسد علـى فريستـه، و في كـل يوم يمضـي من حياتـه يزداد نشوةً فريدةً ،فقد وثِــقَ بقدرتـه علـى النجـاح و صارَ مُتأكدا من الحصول علـى ثمرة مجهوادتـه التي سهر من أجلهـا الليالي الطوال..و فجأةً ! فتحت الجـامعـات أبوابهـا لتسجيل الطلبـة الوافدين في مسالك الماستر فيقتنـص المأسور الخبرَ ليُحركَ كـل الرادارات الممكنـة لاستطـلاع الخبر : و أخيرًا يتحقق الحلم البعيد ، سأجمعُ علـى الفور كـل الوثائق المطلوبـة لأرسلهـا علـى عجـل إلـى عنوان الكلية، فكل شيء في متنـاولي...يقول المأسور
اضطربَـتْ جوارحُ المأسور فرحـاً بمـا كـان ينتظرهُ منذ شهور و راحَ يبنـي في عقلـه عـالمـا آخـر ،عـالمٌ ينـالُ فيـه شهـادتـه العليـا لتكونَ لـه ظهيرا علـى تغيير إطـاره التربوي فيتحررَّ من عبودية العـالم القروي و نكـباتـه التـي لا تنتهـي، لقد صـارَ الآن متفائلا رافعًـا رأسَـهُ أمـام زمـلائـه يُبشرهم بغد أفـضلٍ من هـذا البؤس السحيق، يُغنِّـي مـع نفسـه فاتحـا مشاعـره لكل كبير و صغير و كأنـهُ وصلَ الجبـالَ طولا أو كأنمـا خرت بـه الطيور في وديانٍ من الجنـان النفيسـة ! و أمـامَ هـذا الشعـور الفريد راودهُ مرة أخرى شغَـفُ التمتـع بالنـظر في إعـلان مباراة اجتياز المـاستـر من جديد لُيُنـسي بهـا مـا يتلجلجُ في نفسـه من هموم الواقـع و إكراهـاتـه، فبينمـا هو يتصفحُ مواضيع المـاستر عبر هـاتفه الخلوي و يُـقلِّـب النظـر في عنـاوينهـا الرائعـة و يُديمُ التحديق في فروعهـا التخصصية يزدادُ شيئـا فشيئـا غِبطـةً و سعـادة و كأنـهُ تحقق لـه حلمـه منذ الآن ، يا لمسكين هـذا المأسور يُسـابِق الزمـن و يُؤسس لنفسـه عـالمـا من الأوهـام هربـا من واقعـه المؤلم، يتشبثُ بكـل قشــةٍ و يبنـي عليهـا آمـالا عريضـة من التمنيات المكبوتـة في وسطٍ جبلي يُحـاصِـر عقلـه و جسده قسرًا !
بينمـا هـو يتلـذذ بالتخصصات المعرفية للمـاستر المطلوب و يُكلِـمُ نفسـه عـن آفـاق هـذا الاكتشاف الجديد و يُحدِّثُ زمـلاءه المأسورين بهـذا الفتـح الكبير و يشـرح لهم خـطـة الخروج من هـذا النـفق القروي الرهيب لمُعـانـقَـة عـالمٍ آخـر من التعليم أسرَّتْ إليه نفسيتُـهُ التأكـدَ من سهولـة تجميع الوثائق المطلوبـة، يمـرُّ من شرطٍ لشرط، و كلمـا انتقل للمـوالي انشرحَ صدرَه و تنـور وجهَه بسمةً و إشراقـا حتـى إذا أتمَّ كلهـا ارتـاحَ قلبـه و اطمأن ضميره، لـقد تعـوّد و هـو في العـالم القروي أن لا يمـر شيء إلا بعد الضنك الشديد و أن لا يتحقق شيء يُذكَـر إلا بعـد شكوك كبيرة و تحدي العوائق العويصـة، فكيفَ لا يَشكُّ الآن و قـد تعلـم درسـا بليغـا في مغربنـا الحبيب ! هــلّـــــلَ المأسور طربـاً بصدقِ حدسـه و وجدَ الساحـة خـاليـة لـهُ تنتـظر إيداع ملفـه بكـل سهـولـة ...مسكـين هـذا المأسور فقـد رفعَـه الفرحُ الشديد عـن واقعـه و أعمـى نـظرَه عـن القراءة المتأنية و صـارَ لا يقرأ شيئـا إلا بعـاطفتـه الجياشـة و كأنـه ألغـى عقلَـه كـامـلا و فسحَ المجـال للخيال الجـامح يُقرر لـه الموجود من اللاموجود ! . كـان بصرُهُ شـاخـصا في تِـعداد الشروط المطلوبـة و النظر في طريقـة الترشيح و التركيز علـى تـاريخ بدايـة إرسـال الملفـات إلـى الكليـة المقصودة، لــم يكن يتصور قطُّ أن يتحطمَ كــلُّ شيءٍ في لحظـة خـاطفـة، لـم يكن يدري أنّ مـلاحـظةً صغيرة موضوعـةٍ بحجمِ خطٍّ صغيرٍ أسفـلَ الوثائق المطلوبـة من شأنهـا أن تُدمِّــر عـالَمـا من الآمـال التـي بُنِيت علـى رِمـال مُتحركـة !مـا هـذا الموجود تحت الوثائق المطلوبـة ؟ يتسـاءلُ المأسور في تعجبٍ و ذهولٍ...أمِنَ المعقـول ؟ يتلعثمُ المسكيـن و يتوقفُ لسانـه عن الحركـة و يتجمَّـدُ دمُـه و يتبخـرُ كـلُّ شيء في لحـظة ، مجرد لحظة ! العبارة تقول "أثنـاء عملية التسجيل النهـائي يجبُ الإدلاء برخـصـة مُتـابعـة الدراسـة بالنسبـة للموظفين" ...
لازالَ المأسور يُعيدُ العبارة في كـل مرة و يشرح مفرداتهـا قطعةً قطعـة حتـى إذا استعصـى عليـه فهمَهـا التمسَ من زمـلاءه شرحهـا، لا فائدة ! فالعبارة لا تحتـاجُ لتأويلٍ و لا لشروحـات و كـلُّ شيء فيهـا واضح وضوحَ الشمس في رابعـةِ النهـار ...تكسـرت الآمـال العريضـة علـى صخرةِ "ملحوظةٍ" صغيرةٍ وُضعت أسفل سافلين و انهـار المأسور و خـارت معنوياتـه و دخـلَ في غيبوبـة مظلمـة لا يجد طعمـا في أكـلٍ و لا كـلام ، كيفَ يُعـقَلُ هـذا ؟ أنُمنَـعُ من متـابعـة حقنـا في الدراسـة العليـا حتـى و نحن في هـذا العـالم الكئيب تحوطنـا الجبـال من كـل مكـان ؟ أنُمنَـعُ من تطوير مؤهلاتنـا الفكريـة و في حقنـا في تغيير إطـارنـا التربوي و يُحكَــمُ علينـا بالمـؤبــد هنـا في بلاد الصخور و التـلال و الضنك ؟ كـلا ! ربمـا وقعَ خطأ استثنـائي ، ربمـا ارتبط شرط استصحـاب الرخـصة بهـذه الكليـة فحسبْ لسببٍ من الأسباب، ربمـا لأن الإقبـال علـى المسلك كبير لا يُتيحُ الفرصـة للموظفين بالتسجيل فيهـا، ربمـا لأن القيدوم لـه حساسيـة خـاصة مـع الموظفين،ربمـا و ربمـا ...
صـارَ المأسور يخترعُ لنفسـه الأعـاذير الممكنـة لإلهـاء ذاتـه و إعطـائهـا نَفَـسـاً جديدا، صـارَ يستجمعُ بعض القـوى الآن ليُعيدَ بنـاء الأمـل الذي تهدّم،كـيفَ لا و في بلادنـا مصاعب دائمـة تُواجهُ الغيورَ و أهـلَ الكفاءات ؟ كيف لا و المغرب بلدُ العجـائب و الغرائب في اجتـياز المباريات ؟ عـاد إلـى الأستـاذ المأسور شيءٌ من الهدوء و قرَّر مواصلـة المعركـة من جديد و استنفـر "رادارات" بشريـة مرة أخـرى في كـل مدينـة و كأنـه يخوض حربـا ضروسـة تُجنَّـد لـه استخبارات "عسكرية" مرموقـة ! في قريتـه المعزولـة و في ظلمـات الليل و هدوء الصبـاح ينتظـر كـل لحظـة بلحظةٍ خبرا يزف لـه البشرى، ينتـظر رنين هـاتف يُعيدُ لـه طموحـه و يزرع فيـه حب المعرفـة من جديد، و لـم يكن يتوفـر هـو غير هـاتفه الخلوي بشبكـة ضعيفـة لا تُسعِفـهُ في استطـلاع الرأي عبر الأنترنت، كـلّ الأجواء مُكَهـربـة و كـل الأدوات مُنعدمـة فلا أمـل إلا برنينٍ عبـر الأثير يحملُ مـعهُ النبأ العظيم عنده ...تـمر الأيـام تلو الأخـرى و يغيبُ أيَّ صوتِ رنينِ هـاتفه و تتجمّعُ في عقلـه كـلّ صور اليأس و الاستسلام و تنكمش شيئا فشيئـا تطلعـاتُـه العـالية و يخرُّ الأمـل أرضـاً فلا تسمعُ إلا همسـاً...
بينمـا صـاحبنـا الأستـاذ المأسور في خضم فصلـه الحـارّ باكتظاظ التلاميذ و تعدد المستويات و بينمـا يهمُّ بالخروج من بِحـار التنـاقضات التـي تفرضهـا الأقسام المُعتَركـة إذا برنينٍ آتٍ من أحد زمـلائه... نـاولَ المأسور هـاتفهُ الخلوي مُرتجِفـا و كأنـه ينتظـر ضربـة قاضيـة أو خبراً مُبشِّراً ، فإذا برسـالـة زميلـه يحمـلُ إليـه خبرا مشؤومـا: كليـة كذا في مسلك كذا تشترط هـي الأخـرى رُخـصة متابعـة الدراسـة للموظفين... يا لـه من يومٍ عصيبٍ، لقد اسودت الدنيا في وجـهه و صـار كـلُّ شيء كـالحـا و تغير المزاج النفسي و بلغَ السيل الزبـى ...حسبنـا الله و نعم الوكيل و لا حول و لا قوة إلا بالله العظيم.
إلـى هنـا تـأبَّــدَ وجود الأستـاذ المأسور قرويـًّا و بدتِ القريـة المنكوبـة سجنـاً رهيبـا يُقيِّدُ كــل حركـاتـه، امتد فكره ليستحضـر أهلـه و أبنـاءه و هـم في حـاجـة إلى حنـانـه و أبُوتـه و كأنـه يودعُ أعـز أقرباءه ، توالتِ الرسائل القصيرة عليه من كـل مكـان لتشي كلهـا بنفس المعنـى ، معنـى حِرمـان الأستـاذ الموظف من متـابعـة دراستـه العليا و الحكم المُؤبـد علـى الأساتذة القرويين، هـيَ حكـايـةٌ واقـعٍ يعيشـه قطـاعٌ واسعٌ من الأساتذة في العـالم القروي وسطَ إهمـالٍ حُكومـي و إغراقٌ لـه بالمسؤوليات في وسـطٍ يعجُّ بالمفارقات الجغرافية و التربوية و المـادية...
ينتقلُ المأسور من محـاولة لمحـاولة و يجهـدُ نفسـه لابتكـار أية وسيلـة لنقض حكم المؤبد عنـه، و في كـل مرة يكتشفُ وجودَ مخرج يعود القهقرى من جديد، راهنَ المسكين علـى متـابعـة الدراسـة العليا فمـا لبثَ أن سقطَ طريحـا ،ثم راهنَ علـى تغيير إطـاره عبر اجتياز مباراة مراكز التكوين فوجدَ من جديد شرطَ "تُفتَحُ لغير الموظفين"، ثم راهـن علـى حركـة انتقالية تُخرجُهُ من قمقم البادية فوجدَ نفسـه مسبوقـا بمعـايير اللحـاق و أهـل ملفات طبية بسنوات ضوئية ..بكلمـة صـارَ حكم التأبيد نـافذا إلـى مـا لا نهـايـة...
محكــــــمَـة !!!! حكمت المحكمة حضوريـا علـى الأستـاذ القروي بالمؤبـد مـع الأشغـال الشـاقـة مدى الحياة و فـصل ذاتـه عـن الحياة الأسرية و حِرمـانـه من أي امتياز ... رُفِعَــتِ الجلــســـة
المُــــؤبّــــــدْ !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق